- الرئيسية
- الأرشيف
- كتاب
حمص 700 يومٍ من الحصار
أكل من تبقى من مقاتلين ومدنيين في أحياء حمص القديمة الحشائش وأوراق الشجر وجلود الأبقار، وذبحوا القطط والسلاحف والضفادع. هذا جزءٌ مما يوثقه وليد الفارس، عضو المجلس الثوريّ لحمص وأحد المحاصرين، في كتابه الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2015.
يبدأ الكتاب باستعراض مسار الثورة في حمص، منذ مظاهراتها السلمية وحتى حمل السلاح، تأسيساً على الصراع الديموغرافيّ الصامت الذي شهدته المدينة في السنوات السابقة، بانتقال نسبةٍ كبيرةٍ من علويّي الأرياف إليها وسكنهم في أحياءٍ خاصةٍ قدّمت الكثير من أبنائها على مذبح النظام بعد أن اتخذوا موقفاً مناهضاً للثورة منذ البداية، واستلموا السلاح من أجهزة النظام لقمعها، وتجاوزوا أوامر أجهزة الأمن في أحيانٍ كثيرةٍ ليرتكبوا مجازرهم الخاصة، كما في حيّ كرم الزيتون وحيّ السبيل ومنطقة الحولة. وهكذا عمّت المقاومة الشعبية المسلحة الأحياء الثائرة، وأخذت تنحو ببطءٍ من المجموعات الصغيرة إلى التنسيق والتكتل.
وبالنظر إلى سمعتها كـ «عاصمةٍ للثورة»، وخروج معظم أحيائها عن سيطرته فعلياً، قرر النظام القيام بحملةٍ عسكريةٍ واسعةٍ على حمص في مطلع 2012، تمكّن في بدايتها من اقتحام حيّ بابا عمرو الشهير، ثم أخذ يقصف الأحياء الأخرى ويداهمها بأعدادٍ كبيرةٍ من المقاتلين، حتى استطاع إغلاق المنفذ الأخير بين الأحياء الأربعة عشر التي ستغدو محاصرةً وبين حيّ الغوطة، لتبدأ بذلك المعاناة التي استمرّت حوالي سنتين.
كانت أعداد العائلات في هذه المناطق كبيرةً عند إغلاق المنفذ، فبدأت عملية إجلاءٍ سريعةٌ استمرت ثلاثة أيامٍ عبر بساتين خطرة ومكشوفة، قبل أن يستهدفها قنّاصو النظام فتتوقف المغادرة إلا على مرّاتٍ متقطعة عبر أنفاقٍ كانت تُكتشف وتُردم كلّ مرّة.
استهلك سكان المنطقة المحاصرة أغلب المؤن الموجودة في المنازل والمحلات خلال الأشهر الستة الأولى. وتزامن شحّ المواد الغذائية مع توقف الفرن الوحيد في المنطقة عن إنتاج الخبز بسبب عدم وجود الخميرة، ومع قصفٍ عنيفٍ على مدار الساعة، فحلّ الشتاء كئيباً مع افتقار المنطقة إلى المحروقات. وبعد مرور عامٍ على الحصار خسر الثوار حيّ الخالدية الذي كانت مطاحن القمح فيه توفر للمحاصرين الجزء الأكبر من القمح الذي صار يُطحن ويُخبز في البيوت. وبدأت معاناة الناس الحقيقية، حتى أصبحت ثمار الزيتون الوجبة الرئيسية، وصار الاعتماد على الشوربة الفقيرة بالعناصر أساسياً.
ومن جانبٍ آخر كانت المحاولات العسكرية والسياسية لفكّ الحصار مستمرّة، وإن شابها الكثير من الارتجال والاضطراب ولم تثمر في حقيقة الأمر عن شيء. ومن أبرز المحاولات العسكرية حملة «قادمون يا حمص» التي أعدّ لها العقيد فاتح حسّون، قائد المجلس العسكري في المحافظة، بمساعدة الشيخين المعروفين سهل جنيد ومحمود الدالاتي وعلاقاتهما، ودعمٍ من هيئة حماية المدنيين. وبعد بدء الحملة بمدّةٍ قصيرةٍ، وتحقيقها بعض الإنجازات في طريقها الطويل للتقدم إلى حمص، تبيّن أن عدداً كبيراً من قوّات كتائب الفاروق الإسلامية -المشاركة في الحملة- قد بايعت داعش وأخذت السلاح الذي في حوزتها وانسحبت إلى شرق البلاد، ومن ثمّ عادت إلى أرض المعركة بصحبة قوّاتٍ أخرى من التنظيم للاستيلاء على باقي العتاد الخاصّ بالحملة التي صارت قوّاتها تقاتل النظام من الأمام وداعش من الخلف. واستطاع التنظيم أسر 250 من مقاتلي الحملة ومؤازريهم، والاستيلاء على ثلاثين سيارةً محمّلةً بالسلاح والذخيرة، وفشلت الحملة بالطبع!
أما الضغط بالوسائل السياسية فيكفي اختصاره بتصريح ميشيل كيلو أنه طلب من ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسيّ، إدخال مواد إنسانيةٍ إلى حمص التي تعاني الجوع ويموت بعض مرضاها وجرحاها نتيجة نقص الأدوية والتجهيزات الطبية، فكان ردّ الأخير هو السؤال عن مقابل ذلك..
وفوّض الثوّار أمين الحلوانيّ، الطبيب الحمصيّ المقيم في الإمارات، في شأن إجلاء المدنيين وإدخال موادّ طبية. فزار القيادات العسكرية والأمنية في النظام، وسعى إلى تقديم مبادرةٍ متكاملةٍ ترضي الطرفين، ولكن هؤلاء «المسؤولين» طلبوا منه مراجعة السفارة الإيرانية التي بدت غير مهتمة، إذ قال أحد مسؤولي خارجيتها للحلواني إن الثورة قد انتهت وإن بضعة صواريخ ستتكفل بالقضاء على من تبقى في سورية من المسلحين. وبعد هذا الفشل أحالت «القيادات» الأمنية والعسكرية في النظام الحلواني إلى مسؤول «الدفاع الوطني» (الشبّيحة) في حمص للاتفاق معه على أيّ بنودٍ مناسبة!
وأخيراً جرت المفاوضات النهائية عبر الجبهة الإسلامية التي كانت تعتقل عناصر إيرانيين وآخرين محسوبين على النظام في معارك سابقة، وتحاصر نبّل والزهراء الشيعيّتين في ريف حلب، فتمّ الاتفاق على إخراج جميع المحاصرين إلى الريف الشماليّ بأسلحتهم الفردية وذخائرهم، في أيار 2014.
في الكتاب معلوماتٌ غنيةٌ أخرى عن فصائل حمص المحاصرة، وقياداتها، ومحاولات توحيدها، ومعاركها البارزة لصدّ تقدّم النظام أثناء الحصار. وكذلك عن النشاطات المدنية، والكوادر والخبرات التي كانت موجودة، وجهودها السياسية والإعلامية والتربوية.