كنا، نحن مجموعة الزبائن القليلين، ننتظر بتثاقلٍ انتهاء إصلاح أجهزتنا الخليوية، تحت الضوء الشحيح والأثاث الفقير للمحلّ السوريّ، عندما فتح شابٌّ الباب مسرعاً وقال: مظاهرة! لست أدري إن كنت الوحيد الذي انخلع قلبه للحظات، وقد قفزت أمامي صور الرصاص والقناصين والشهداء والمشافي الميدانية والاعتقالات، قبل أن أتذكّر أننا في عنتاب التركية.
لا يهتمّ السوريون الكثيرون المقيمون في عنتاب، والزائرون لها بحكم احتياجات الثورة، بمعرفة المدينة. في إحدى المكتبات العامة – التي تحوي عدداً قليلاً فقط من الكتب العربية التراثية – تصطفّ عشرات الكتب في رفٍّ بعنوان Gaziantep، لكنها تبدو كخزائن مغلقةٍ بحكم اللغة. لو أن روايةً جيدةً واحدةً فقط منها ترجمت إلى العربية لأغنت كثيراً، فمعلوماتنا المتناثرة مأخوذةٌ من الويكيبيديا ومن مواقع أقلّ أهميةً حتى.
ولكن في الحقيقة، هل نأبه لمعرفة مدينةٍ دخلت حياة كثيرٍ من السوريين وأصبحت جزءاً من تاريخ ثورتهم؟ لنعترف، تقود النفعية المبتذلة – والتي استفحل أمرها مع الثورة بحكم الاحتياجات المتعدّدة – إلى الاستغناء بتحقيق الغرض عن المعرفة وعن بناء الجسور الحقيقية مع دول النزوح، التي صرنا نتعامل معها كجملة إحداثياتٍ أصليةٍ نثبّت عليها بتعجلٍ ورقتنا الشفافة والهشة، نرسم مسارنا السريع والمتكسّر والفوضويّ، ثم نمضي لا نلوي على شيء. عنتاب – وسواها – مجرّد خلفيةٍ لنشاطنا المحموم وغير المجدي.
حسناً فعل الناشطون والسياسيون حين حذّروا السوريين من المشاركة في أيٍّ من النشاطات الانتخابية التركية القائمة والقادمة، فهذا سلوكٌ بديهيٌّ يجب أن يلتزم به أيّ ضيفٍ مؤقت. وتجربتنا مع أجهزة أمن السيسي وأبواق إعلامه الردّاحة ما زالت حاضرةً في الذاكرة، ولم تُمحَ آثارها العملية بعد. ولكن الأمر مختلفٌ عن السياسة الداخلية واستحقاقاتها، ما نقصده هو المعرفة، الفهم، الامتنان الجادّ القائم على تواصلٍ مقبولٍ مع أولئك الذين نعايشهم.
أنا في فندق توجان
لا تهدأ حركة الناشطين إلى عنتاب، دوراتٌ وندواتٌ ومنظمات... وأخيراً الحكومة المؤقتة. يشكّ الكثيرون في نوايا منظمي الدورات: "إنهم يريدون تجنيد العملاء، ويهدفون إلى تفريغ الداخل من الفاعلين"، يقول كثيرون، منهم من لا يتورّع عن حضور أية دورةٍ من تلك التي ينتقدها. وبغضّ النظر عن مدى صحّة الاتهامات السابقة من عدمه، أو صحّتها جزئياً في حالات، فإن مراجعة أسلوب الدورات السريعة صارت ضرورية، بعد أن تراكم العديد منها دون إنجازاتٍ جدية، وبعد أن تغيّر الأساس الذي قامت عليه، وهو تقديم معرفةٍ سريعةٍ وإسعافيةٍ لثورةٍ قيد تحقيق أهدافها، إلى ميل معظم الفاعلين إلى رؤية الوضع الراهن على أنه صراعٌ بعيد المدى، يحتاج إلى خططٍ وجهودٍ ذات أفقٍ متوسطٍ زمنياً، على الأقلّ. ويقال مثل ذلك عن مؤسسات الدعم المدنيّ التي بدأت بدراسة بعض المشاريع التي يجب أن تؤمّن للقرى والبلدات والإدارات موارد ذاتية معقولة.
بنّ العلبي... وشركاه
يسأل الموظّف المختصّ بتدقيق أوراق استخراج الإقامة: معارض أو مؤيّد أو محايد؟ استكمالاً غير مفهومٍ لمتطلبات المعلومات التي بين يديه! يختار معظم الحلبيين – وهم أكثر النازحين إلى عنتاب – الإجابة الثالثة. لم تدفع كلّ أحداث الثورة، وأخيراً براميل الموت المروّعة، الكثيرين إلى التخلّي عن الخوف حتى في تركيا! "لا يأمن المرء النتيجة، فقد لا يسقط النظام، وقد ترجع تركيا إلى التعاون مع المخابرات السورية"، يقولون. وما زال النازح من المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الأسد من حلب حذراً، وما زالت ثنائية الريف والمدينة والفوارق الاقتصادية بين الأحياء تلقي بثقلها هنا أيضاً.
لم تقدّم الثورة التطمينات الفعلية اللازمة، لا للمجتمعات الأقصى في التشكيك بها فحسب، بل حتى للشقيق القريب. في مقاهيهم المرتجلة، يتداول أبناء حلب الغنية في عنتاب أخباراً لا تنتهي عن سرقة المعامل، وعن خطف "أولاد العيل" طمعاً في الفدية الكبيرة. ويراقبون أخبار قذائف الهاون التي تنهال بين الحين والآخر على من تبقى من أهاليهم في الأحياء المحتلة، عقب تحذيرٍ قصيرٍ يظهر فيه بضعة رجالٍ غامضين على اليوتيوب، يطالبون عشرات الألوف من السكان بإخلاء المناطق التي يحدّدونها، والتي ستتعرّض للقصف، خلال 24 أو 48 ساعة. هكذا ببساطة!