- الرئيسية
- مقالات
- رأي
النظام السوري وثقافة الحذاء
قيل في الحكاية إن ملكاً كان يحكم دولة واسعة جداً قام يوماً برحلة برية طويلة. وخلال عودته وجد أن قدميه تورمتا بسبب المشي في الطرق الوعرة فأصدر أمراً بتغطية كل الشوارع بالجلد، لكن أحد وزرائه أشار عليه بوضع قطعة جلد صغيرة تحت قدمي الملك فقط، فكانت هذه بداية انتعال الأحذية.
ويقال إن الإنسان عرف الحذاء منذ ما يزيد على أربعين ألف عام. وقد استخدم الفراعنة الصنادل المصنوعة من الأوراق والجلود سنة 2700 ق. م، وكذلك لبسها الإغريق والرومان القدماء، ثم تطورت لتتجاوز وظيفتها في الوقاية إلى الأناقة وإبراز الوضع الاجتماعي. وتقول المصادر إن تطور الحذاء وصل إلى تحقيق درجة كبيرة من الفوائد: فقد اختُرع حذاء يبعد القدم تلقائياً عن الألغام، وحذاء ذكي ينبه الكفيف وخفيف النظر، وحذاء تُشحن به بطارية الهاتف النقال... إلخ.
ووفق علماء النفس تكشف الأحذية عن شخصية صاحبها، فهي تظهر إحساسه بالأناقة ودرجة اهتمامه بالتفاصيل. ومن المثير للاهتمام أن أحد متاحف ألمانيا أقام معرضاً فنياً خصص بالكامل للوحة الفنان الهولندي الشهير فنسنت فان كوخ «حذاء» التي يعود تاريخ رسمها الى العام 1886. ويبيّن المعرض الأهمية الاستثنائية لهذه اللوحة في فلسفة الفن المعاصر وعلاقتها بتاريخ الأفكار، إذ حظيت باهتمام العديد من الفلاسفة ومؤرخي الفن، من أمثال الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر والفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ومؤرخ الفن الليتواني ماير شابيرو. ومن هذه المقدمة المختصرة جداً لتاريخ الحذاء يلاحظ أنه حاز أهمية اقتصادية وعلمية وثقافية وغيرها. وهذا، إن عبر عن شيء فهو يعبر عن تطور العقل الأوروبي في كافة المجالات.
لكن المثير للدهشة هو أن مفهوم الحذاء أخذ شكلاً غريباً ومضامين سياسية حادة لدى النظام السوري ومواليه من جهة، ولدى المعارضين الثوريين لهذا النظام من جهة أخرى. وخلاصة الأمر أن النظام وضع «الحذاء العسكري» كمصدر شرعية وحيد لإعلان التأييد له، وكشرط أولي ورئيسي «للعائدين الى حضن الوطن». وفي الحقيقة كان «الحذاء» كان هو «الحاكم» في سورية منذ عام 1963، ونال السيادة المطلقة منذ انقلاب تشرين الثاني 1970.
فقد أنشأ حافظ الأسد الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية الطائفية، التي كانت تتدخل في جميع شؤون الشعب بشكل فظ في البداية ثم بالقوة العارية في فترة الثمانينات. ولكي يكمل سيادته على المجتمع كان لا بد من السيطرة المطلقة على المؤسسات المدنية مثل النقابات (اتحاد عمال، اتحاد رياضي، اتحاد نسائي... إلخ) وتحويلها إلى «أحذية» تابعة، مهمتها تدجين المجتمع ومراقبته والسيطرة عليه. وقد لعب البعث دوراً خاصاً في هذا المجال بعد تحوله من حزب سياسي إلى «حذاء» أمني وعسكري. ومن أبرز المشاهد المأساوية في هذا الواقع أن «اتحاد الكتاب العرب» و«نقابة الفنانين السوريين»، أي النخبة التي كان من المفروض أن تنتج الثقافة بوصفها أداة تحرير للعقل وارتقاء بالمجتمع نحو دروب الحضارة والتحرر؛ كانت تلعب دوراً مكملاً لسيطرة الاستبداد بتبعيتها المطلقة للنظام. لقد كانت هاتان «المؤسستان» -وغيرهما طبعاً- «معملاً مليئاً بالأحذية المفخخة» لمنع أي انحراف عن مقاصد السلطة.
وقد برز نمط تفكير رجال النظام السوري وعملهم -على مستوى القيادة والقاعدة الشعبية على حد سواء- في الإبادة الهمجية للشعب المعارض له والثائر عليه، كشكل وحيد لوجود النظام/الحذاء العسكري متوجاً على حكم سورية، لا يتنفس أحد إلا من خلاله.
حتى الفاسدين من المعارضة الذين عادوا إلى «حضن الحذاء» كان الشرط المفروض عليهم، والذي كانوا يعرفونه ويوافقون عليه، هو الركوع ليقبّلوا «الحذاء» ثم ينظر «الحذاء الكبير» في أمرهم وقد لا يقبل «توبتهم»، كما حصل مع الوضيع بسام الملك الذي ما زال ينتظر موافقة «الحذاء الأول» على عودته.
إن من كانوا يسمون فنانين، أمثال بسام كوسا ودريد لحام وزهير عبد الكريم ورغدة، وغيرهم الكثير من المثيرين للاشمئزاز بانحطاطهم وتفاهتهم وعبوديتهم وبيعهم للشعب السوري مقابل مصلحتهم الرخيصة؛ يقدمون مثالاً ساطعاً على «ثقافة النظم السوداء» مقابل ثقافة التحرر والحرية والنور.
إن عبيد روما وأسراها، الذين ثاروا على الإمبراطورية الرومانية وجيشها الهائل حتى شكلوا خطراً داهماً عليها، ما أدى إلى إرسال جيوش جرارة لإبادتهم؛ لهم أشد تحرراً وشرفاً ونبلاً من حثالات الأحذية على طول البلاد العربية وعرضها.