يقول هيغل: سوف يظلّ البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه، ما بقي فيه عرقٌ ينبض وروحٌ تشعر.. فما بالك حين تبحث الضحية عن الحقيقة.. لعل ذلك يختزل فكرة العدالة الانتقالية ومجال اختصاصها ونطاق عملها.
تعرَّف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمعٌ ما لتحقيق العدالة في فترةٍ انتقاليةٍ من تاريخه، تنشأ غالباً بعد اندلاع ثورةٍ أو انتهاء حربٍ، يترتب عليها انتهاء حقبةٍ من الحكم السلطوي القمعي داخل البلاد، والمرور بمرحلة انتقالية نحو تحوّلٍ ديمقراطي. وخلالها تواجه المجتمع إشكاليةٌ هامةٌ جداً، وهي التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، سواء أكانت حقوقاً جسدية أم سياسية أو اقتصادية.
يرجع البعض بدايات مفهوم العدالة الانتقالية وتطبيقاتها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، في محاكمات نورمبرج في ألمانيا، وهي من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ المعاصر، والتي قُدِّم إليها مجرمو الحرب من القيادة النازية.
ثم كانت البداية الحقيقية لمحاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي. وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي، من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990.
ثم جاءت تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة الشهيرة في 1995، التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في ذلك البلد في فترة التمييز العنصري الطويل.
بالإضافة إلى التجربة الخاصة جداً التي شهدتها المغرب، حين قام ملكها الراحل، الحسن الثاني، بإجراءات التحول وتسليم الحكم إلى المعارضة في عام 1995، والتي أفضت إلى إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة لتقصي الحقائق، واختتمت أعمالها بدفع تعويضات للضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليلٍ من المؤسسات، في عام 2005. وبهذا تكون المغرب صاحبة تجربة فريدة في التعامل مع العدالة الانتقالية، تمّت من داخل النظام نفسه، ولم تُنفَّذ عقب انتهاء حرب أهلية أو ثورة.
وترتــكز العـــــدالـة الانتــــقاليــة إلى مبرراتٍ منطقيةٍ، وأبرزها:
- تقوية الديمقراطية: يعتبر العديد من الأشخاص أن الديمقراطية لا يمكن بناؤها على أساس أكاذيب، وأن جهوداً مستمرة ومنظمة وتوافقية لمواجهة الماضي يمكن أن تؤدي إلى ديمقراطية أكثر قوة. ويتم ذلك بشكلٍ كبيرٍ من خلال إرساء المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
- الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي: يرى نشطاء حقوق الإنسان والضحايا وآخرون بأن ثمّة واجباً أخلاقياً في التذكّر، لقبول الضحايا والاعتراف بهم. كما أن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلاً من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة. ويمكن أن يكون البديل هو ثورات الذاكرة، حين يغلي الغضب وعدم الرضا تحت سطح الحياة السياسية، وبالتالي ينفلتان من وقت لآخر.
إن تحقيق العدالة الانتقالية هو السبيل الوحيد الذي يضمن إنصاف الضحايا وضمان عدم تكرار الجرائم والانتهاكات، ويفتح الطريق لتحقيق المصالحة الوطنية بعد المحاسبة، التي بدونها تظلّ البلاد عرضةً لمزيد من إراقة الدماء، والتي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيدٍ، ويقوّض حالة السلم الأهلي الضرورية لبناء أي دولةٍ حديثة.
لقد تراكمت انتهاكات حقوق الإنسان في سورية من مراحل مختلفة، ابتداءً من سنوات الخوف في الثمانينات، التي ارتبطت بعددٍ من أشدّ هذه الانتهاكات وأخطرها، كما ترافقت مع سوء استخدام وتجيير النظام القضائي، مما أفقده استقلاليته تماماً، كما ترافقت مع عمليات القتل العشوائي واتساع حوادث الاختفاء القسري. حتى قيام الثورة السورية مطلع العام 2011 التي اعتمد فيها النظام ذات الأساليب (دفاتره القديمة) بشكل أشدّ. وهذا ما يشكّل تحدياً كبيراً أمام السوريين لضمان معاقبة الجناة المسؤولين عن ارتكاب هذا الجرائم الفظيعة، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب والمحاسبة..
سورية في حاجةٍ إلى تأسيسٍ جديدٍ قائمٍ على الشرعية الدستورية المؤسساتية، وتجاوز إرث الماضي الثقيل، عبر مجموعة من الإجراءات تؤسس للمصالحة الوطنية عبر العدالة الانتقالية..