مسافرون عبر العاصي - الحدود السورية التركية - من موقع transterramedia.com
تعني كلمة الحَلّة، المتداولة في لهجتنا، القِدر الكبير الذي يستعمل لطهو اللحم أو الأرز. فالطبخ هو الوظيفة المنطقية الوحيدة للقدور، إلا أن السوريين وجدوا لها وظيفةً أخرى، وهي أن تصبح وسيلة نقلٍ مائية ٍللوصول إلى الأراضي التركية تهريباً بين ضفتي نهر العاصي.
لا يمكن للمرء أن يكتب بجديةٍ عن رحلةٍ كرحلتي، مع ما فيها من لحظاتٍ تجمع المأساة بالمغامرة، وتجمع خيالات لعب الأطفال بالأسلوب العمليّ الذي حوّل آنية المطبخ إلى قاربٍ ينقل المسافرين من دولةٍ إلى دولةٍ أخرى.
بدأتُ سفرتي (السياحية) الأولى لوحدي. عندما بلغت (الميناء) في العاشرة صباحاً فوجئتُ بوجود مئات السياح الذين كان معظمهم من محافظة إدلب. كانت وجوههم فرِحةً وهم يرون الحلّة تتهادى كملكةٍ تعود من منفاها. ضحك عريسٌ وعروسٌ متزوجان حديثاً وهما يستعدّان لحمل أمتعتهما والتقدم باتجاه (رصيف الميناء) الطينيّ. لملمت أمٌّ في الثلاثين مع أطفالها أشياءها البسيطة وطلبت مني المساعدة في الوصول إلى الحلّة. رفع رجلٌ مسنٌّ وزوجته أيديهما بالدعاء لراعي المسنّين والمسنّات الذي وفّر لهما هذه الرحلة، وشعرا كم كانا عقوقين لنظام الحرية والاشتراكية، فقرّرا على الفور أن يبعثا برقية شكرٍ مكتوبةٍ بدموع الفرح إلى القائد، مرفقة بطلب انتسابٍ إلى حزب البعث الذي بعث الحلّة من مرقدها. لكن ما صعق الجميع إعلان (القبطان) أن الرحلة تأجلت إلى المساء لأن (العسس) التركي اكتشف المؤامرة فجلس على الطرف المقابل من النهر يترصّد الحلّة. افترش السيّاح الأرض بانتظار المساء والغصّة تملأ حلوقهم، أما أنا فعدتُ أدراجي عازماً على معاودة المحاولة لاحقاً مصطحباً أفراد أسرتي، مكافأةً لهم على صبرهم عليّ طيلة عشرين عاماً. بعد بضعة أيامٍ تعمّدت وصولنا مبكرين لنستغل كون المتآمرين على السياحة في بلدنا ما زالوا نائمين. لم يكن تزاحم الناس للصعود إلى الحلة قد بدأ لحظة وصولنا، لكننا شاهدنا مخرج فيلم (تايتنك) يتلصّص على حلّتنا يحاول أن يسرق تصميمها لأنه يريد إعادة إخراج فيلمه دون أن تتحطم سفينته، إلا أن القبض ألقي عليه تحت طائلة مخالفة قانون براءة الاختراع. بعد وصولنا بلحظاتٍ صدحت أبواق الحلّة معلنة بدء الصعود إلى سطحها – عفواً - الهبوط إلى قعرها العملاق الذي يبلغ محيطه حوالي 5 أمتار، لكن ببركة آل الأسد، ومن شوق المسافرين للوصول إلى منتجعاتهم السياحية،
يمكن أن تتسع لأكثر من 20 شخصاً. عندما طُلِب من زوجتي القفز إلى باطن الحلة ارتعدت متراجعةً لأنها لم تكن ترتدي حِلةً وحِليّاً تليق بحلاوة هذه الحَلّة التي حَلّت ضيفةً عزيزةً على وسائل النقل في مدينة إدلب، لتشارك باحتفالاتنا بالذكرى 52 لحلول حزب البعث مديراً لمركز إيجاد الحلول لمشاكل العالم الكبرى والصغرى (الإرهاب، تلوث البيئة، الانفجار السكانيّ، البطالة). شاهدت دموع الفرح في عيني زوجتي. إنه عرفانٌ بجميل زوجها بهذه الرحلة الأوديسية. قدّرَتْ أن حبي لها صادقٌ ولم أنسها كما نسي أوليس زوجته بينيلوب. من ناحيتي تخيلتُ بطل وبطلة (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز وتمنيتُ لو أن رحلة حلّتنا تدوم إلى الأبد لأبقى في نعيمٍ دائم، أنا البطال، مع زوجتي البطلة. وقدّرتُ للائتلاف الوطني عجزه عن حل مشكلة تجديد جوازات السفر السورية، وتفرّغه لتأمين صواريخ مضادة للطائرات والدبابات، لأن حلّ مشكلة الجوازات كان سيحرمنا من هذه الرحلة الرائعة.
بعد أن تصل إلى الطرف الأخر من النهر يستقبلك تراكتورٌ (فخمٌ) ينقلك بأجرٍ باهظٍ عبر مسالك وعرةٍ إلى أن تصل مبتغاك، لتبدأ التفكير بإيجاد حلولٍ واقعيةٍ لترتيب أمورك السياحية. هل الأجدى أن تنزل في فندق 3 نجوم (مخيّم) أم 4 نجوم (كرفانات) أم يليق بك أكثر 5 نجوم يا ابن الحسب والنسب (منزلٌ في أحد زواريب مدينةٍ تركيةٍ ما). طبعاً ستحزن وأنت تفكر بعدد نجوم الفندق إن صدف وكانت في بلدك مناسبةٌ قوميةٌ مثل طهور ابن السلطان أو القيام بتجربةٍ كيماويةٍ ناجحةٍ في الغوطة، لأنك لا تستطيع أن تشارك بها.