يدرس هذا الكتاب طريقة توظيف النظام السوري للتماثيل والصور والرموز والعُروض والخطاب البلاغي والشعارات الرسميّة، كآلياتٍ للسيطرة على المجتمع والتحكّم بأفراده، وتمجيد «القائد»، وصولاً إلى تقديسه. وقد أعدّته مؤلفته، ليزا وادين، كأطروحةٍ للحصول على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، ثم نشرته جامعة شيكاغو، عام 1999. ومن هنا فإنه يتناول مرحلة حكم حافظ الأسد، إلا أن الآليات نفسها قد استمرّت ـ تقريباً ـ أيّام ولده بشّار، الذي بدأ عهده بتخفيف هذه المظاهر التبجيليّة المغالية، لأشهرٍ قليلةٍ، ما لبثت أن عادت بعدها، واستمرّت بوتيرة مطّردة حتى وصلت إلى مظاهر العبادة الراهنة. وتتناول الباحثة متطلبات الرياء العام التي فرضها النظام على المواطنين العاديّين في حياتهم اليوميّة، من ترديد الشعارات خلال البرامج والمهرجانات شبه الإلزاميّة التي تجريها «المنظّمات الشعبية»، كالطلائع والشبيبة واتحاد طلبة سورية واتحاد العمال... إلخ، إلى المسيرات التي تُلزم المؤسسات الحكومية موظّفيها على الخروج فيها، بمناسبات الحزب والدولة وتجديد «البيعة». أما موظّفو القطّاع الخاص وأصحاب المحالّ الصغيرة، الذين يملكون هامشاً أكبر من الحريّة من نظرائهم في القطّاع العام؛ فقد أدّوا حصّتهم من تعظيم الأسد بتعليق صوره في أمكنةٍ بارزةٍ من مكاتبهم أو محالّهم، بشكلٍ يصبح فيه الكلّ مشاركاً في هذا التقديس ومستهلكاً يوميّاً له. وفي الحقيقة، لم يكن مطلوباً من الناس أن يصدّقوا رواية تقديس الحاكم، ولكنهم مطالبون بالتظاهر كما لو أنّهم يصدّقونها. فالأسد ليس هو «الصيدلي الأول» بأي معنى حرفيٍ ذي دلالة. لكن الأسد قويٌ لأن نظامه قادرٌ على إكراه الناس على أن يكرّروا ما يثير السخرية ويجاهروا بما لا يقبله العقل. إن ظاهرة تقديس الأسد، حتى عندما لا تكون مُصدّقة، هي آلية قوية للتحكّم. من المعروف عموماً، أن وزير إعلام الأسد في أعوام (1974 ـ 1983)، أحمد إسكندر أحمد، هو مخترع ومهندس ظاهرة تعظيم رئيسه، في نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف. لكن خطاب التقديس تنوّع بوجود متزلّفين متنافسين، فظهرت الأغاني المتلاحقة، وانتشرت التماثيل، ثم شاعت الكتب التي تسجّل إنجازات «بطل التشرينين»، والتي لا يمكن اعتبارها سيرةً ذاتيّة، بل إنشاءً مبتذلاً مفرط الثناء في «فكر القائد ونضاله». ورغم أن هذه الكتب قلّما توجد في المكتبات التجاريّة، إلا أنها شكّلت استثماراً مربحاً لمن قام بها، لأن كل دوائر الدولة ومدارسها مطلوبٌ منها شراء نسخٍ منها. ولكن، من جهةٍ أخرى، تشير شعبيّة الهجاء السياسي، والنكات المعارضة للأسد، إلى أن السوريين الذين لم يتحدّوا النظام بشكلٍ مباشر، قد قاوموه بالسخرية. كما يشهد الرواج الذي حظِيَ به كلٌ من مسلسل «مرايا» التلفزيوني السنويّ لياسر العظمة، ورسومات علي فرزات الكاريكاتيرية، وأفلامٍ سينمائيةٍ مثل «نجوم النهار» لأسامة محمد؛ إلى التمكّن من إدراك الظروف المشتركة لعدم التصديق. فمشاهدة الآخرين يطيعون في الحياة اليومية تجعل كلّ شخصٍ يشعر بأنه معزول، بينما يؤشّر التوافق على هذه الأعمال، التي تسخر من الخطاب الرسمي، على إيمان الجميع بحقيقةٍ تعاكس ما أجبروا عليه. لم يُخدع أحدٌ بهذه التمثيلية الكبرى من التكاذب الجماعي إذاً ! (ترجمة د. نجيب الغضبان. بيروت؛ لندن: رياض الريّس للكتب والنشر، 2010)