آن برنارد، هويدا سعد
نيويورك تايمز/ 14 شباط
ترجمة مأمون حلبي
"لو أني أعرف خاتمتي ما كنتُ بدأت"
كان تبادل الرسائل بيننا أمراً غير اعتياديّ، تطوّر على مدار أكثر من عام. أبو المجد رجل شرطةٍ سوريٌّ كثيراً ما كان تم زجّه كجنديٍّ في المعارك. كان يرسل لنا رسائل في أيّ وقت، مُحمّلة بأخبارٍ من خطوط الجبهات، ويتذمّر من الدوريات المُملّة تحت أشعة الشمس الحارقة.
في 19 أيار 2015 أرسل أبو المجد صورتين. أظهرته إحداهما في لباسٍ فضفاضٍ يدخّن الأركيلة وهو يبتسم، كما لو أنّ صديقاً قد دخل للتوّ، وعلى الطاولة فنجانا قهوةٍ تعلوهما الرغوة. كان على وشك الصعود إلى باصٍ مُتّجهٍ إلى تدمر التي كانت تتهاوى تحت ضربات تنظيم الدولة الإسلامية. عددٌ كبيرٌ من جنود النظام كانوا قد لاذوا بالفرار، لكن أبو المجد وعدداً قليلاً من الجنود الآخرين كانوا قد تلقّوا الأوامر بخوض ما كان يعتقده معركةً خاسرة. كان قد التقط الصورتين لهدفٍ خاصّ؛ "قد تكون هذه الصور هي الأخيرة".
لم يتصل بنا بعد ذلك. بعد ستة أسابيع تلقّى والداه اتصالاً من رجلٍ قدّم نفسه على أنه جنديٌّ وحذّر: "لا يخالجكم الأمل"، ثم أغلق الخط. ذهب الأهل إلى مكتبٍ أمنيٍّ، وهناك سلمهم أحد المسؤولين قصاصةً مكتوبٌ عليها "مفقود". كانت القصاصة المؤلمة تخفي حكايةً مخيفةً عن سعي أحد المقاتلين اليائس من أجل البقاء، والصراع الذي اعتراه بين الواجب والخوف.
كنا قد التقينا أبا المجد قبل أكثر من عام، في رحلةٍ إعلاميةٍ إلى تدمر في نيسان 2014. كنا بين آخر الصحفيين الذين زاروا المدينة وآثارها القديمة المهيبة. كان أبو المجد وقتذاك في الرابعة والعشرين. كان جزءاً من مرافقةٍ كبيرةٍ تمّ فرزها كي تحرسنا– وتراقبنا. كانت تدمر قد فقدت مصدر رزقها الرئيسيّ، السياحة، وكان الرجال يجلسون هنا وهناك دون أن يكون لديهم ما يفعلونه. مُتشدّدو تنظيم الدولة الإسلامية كانوا على بُعد بضعة أميالٍ فقط إلى الشرق، في حين كانت دبابات الجيش السوريّ تشغل القلعة الواقعة في أعلى الآثار. همست بعض النسوة لنا عن أقرباء اختطفوا أو اختفوا لدى الحكومة بعد قمع عصيانٍ محليّ. بعض مرافقينا كانوا متوترين، وحدّق عددٌ من الباعة فيهم بعيونٍ تخلو من المودّة.
بالنسبة إلى رجال الشرطة من ذوي الرتب الصغيرة كأبي المجد، كانت زيارتنا تسليةً نادرة. عندما وصلنا إلى منطقة الآثار تسلّقوا الكتل الحجريّة الضخمة واتخذوا وضعياتٍ هزليّة. بعد شهرٍ من هذه الزيارة أرسل أبو المجد رسالةً نصيّةً يقول فيها "تحياتي لكم". في ما بعد انشرح لنا وتكلّم عن أشياء كان يفتقدها، كالرمان والعنب من التربة البركانية لقرية أجداده في مرتفعات الجولان. وعندما أخذت الأحاديث تتعمّق، كان يتأرجح بين الافتخار بواجبه الوطنيّ وبين الخوف والضجر -وحتى الغضب- من المظالم وعدم الكفاءة التي كان يشاهدها في مواصلة الحكومة الحرب.
بعد أن أصبح منتظم المراسلة معنا، انضمّ إلى عدّة مئاتٍ من المعارف الذين نتواصل معهم داخل سوريا بواسطة الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعيّ المتنوّعة: منشقون عن الجيش، ومتمرّدون إسلاميون، وناشطون، ومسؤولون حكوميون، وأصحاب محلات، وأطباء، وقادةٌ عسكريون من كلّ الأطراف. أشخاصٌ يساندون الحكومة وأناسٌ يشمئزون منها وآخرون رماديون يريدون فقط للحرب أن تنتهي. مكّننا أبو المجد –وهنا نستعمل لقبه ولا ننشر صورته حرصاً على عائلته– من النفاذ إلى حياة الجنود الحكوميين العاديين. فهو ينتمي إلى شريحةٍ هامةٍ هي الموالين السُنَّة. تُهيمن الأكثرية السُنيّة في سوريا على التمرّد، ومنها أكثرية عناصر الجيش الذين يؤدّون الخدمة الإلزامية. كثيرٌ من المدنيين وموظفي الدولة المُهادنين هم من السُنّة أيضاً.
المُوالي الهادئ
ترعرع أبو المجد في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي يعيش فيه كثيرٌ من السوريين أيضاً. بعد وقتٍ قصيرٍ من اندلاع الثورة لم تستطع العائلة البقاء في بيتها بسبب المواجهات، فانتقلت إلى حيٍّ آخر، ثم إلى حيٍّ ثالث. كان أبو المجد موالياً للنظام –ابن ضابطٍ متقاعدٍ برتبةٍ صغيرةٍ من الجيش– لكنه لم يكن شخصاً يُغطّي صفحته على فيسبوك بالعلم السوريّ أو بصورٍ لمتمرّدين قتلى، ولا بعهود البيعة للرئيس الأسد. كان قد انضمّ إلى وحدةٍ من رجال الشرطة قبل الثورة بعامٍ على الأقلّ. كان عمله ملاحقة تجار المخدرات والبغايا. لكن عندما ازداد ضغط الحرب على الجيش أُرسِلت كثيرٌ من وحدات الشرطة إلى المعمعة. أُرسِلَ أبو المجد إلى حواجز على خطّ الجبهة، وكان يقوم بدورياتٍ بحثاً عن ناشطي الثورة شرق مدينة حمص.
مع ندرة المؤن والهبوط السريع في قيمة الليرة السورية كان أبو المجد يمزح بالقول إنّ راتبه الشهريّ، البالغ قرابة 100 دولارٍ، يكاد لا يكفي لتزويده بتبغه المُفضّل بنكهة التفاح. كان واقعاً –سرّاً– في غرام ابنة عمّه، لكنه كان قلقاً من أنه لا يستطيع تحمّل أعباء الزواج المادية. كانت العزلة تنهشه. كتب في أيلول 2014: "من فضلكم أخبروني بآخر الأنباء. ليس لدينا تلفازٌ هنا ولا كهرباء، فأنا أعيش في المنفى. أنا ميتٌ، ميتْ". عندما حصل على إجازةٍ وذهب إلى بيته في دمشق انتابته الغيرة من الجنود الذين يخدمون في العاصمة، فبوسعهم أن يتناولوا الشراب ويخرجوا مع النسوة ويستمتعوا بكهرباء منتظمةٍ نسبياً، "كما لو أنهم في أوروبا".
أخبرنا مرّةً أنه حَلِمَ أنّ تنظيم الدولة قد قبض عليه. بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ هاجم التنظيم حقل الشاعر للغاز وقتل عدداً من أصدقائه. في تشرين الأول كتب أنه كان في موقعٍ باردٍ وماطرٍ محاصراً من المتشدّدين، مُنتظراً وصول التعزيزات لخمسة أيام. سألَنا أبو المجد: "إن متُّ هل ستقولون (الله يرحمو)؟". باح لنا بذكرى لا تفارقه، تعود إلى عام 2012. كان يتحدث عبر الهاتف مع صديقٍ يقتحم المتمرّدون لحظتها موقعه القتاليّ. "كنت أحسُّ بالطرق على بابه"، يتذكر أبو المجد. "أتعرفون ذاك الشعور، عندما شخصٌ ما تعرفه وتحبّه كثيراً سيُقتل بعد بضع دقائق، وأنت لا تعرف ماذا تفعل؟". كان يشتكي من أن اللبنانيين في ميليشيا حزب الله التي تساند الحكومة يتقاضون أكثر من المقاتلين السوريين، ومن أن رائحة الرشاوى تفوح من الجنود على الحواجز "الشغّالة"، بينما نحن على جبهة الصحراء "عم ناكل هوا".
شيءٌ اسمه الوطنية
بالرغم من إحباطاته كان أبو المجد يعتقد أنّ على "المرء ألا ينقلب ضدّ حكومته مهما فعلت. لا يوجد شيءٌ يُسمّى ]مع[ أو ]ضد[ بشار. هناك شيءٌ يُسمّى الوطنية، القومية، الولاء؛ شيءٌ يُسمّى ]نحن سوريون وعلينا أن ندافع عن أمتنا[. الواحد منّا إمّا مع الدولة أو مع الجماعات الإرهابية". قال إنه يتمنى أن يستيقظ في بيته القديم فيجد أنّ الحرب كانت حلماً. "لو أني أعرف أنّ البحر عميقٌ جداً ما أبحرت"، قال، مقتبساً عن الشاعر الدمشقيّ نزار قباني. "لو أني أعرف خاتمتي ما كنتُ بدأت". في آذار الماضي تفاقم إحباطه. تعارك بالأيدي مع عمال إغاثةٍ في دمشق قال إنهم كانوا يسرقون بمساعدة مسؤولين محليين. في الشهر التالي استشاط غضباً بعد أن أُرسِلَ ابن عمه إلى إدلب. اتصل ابن عمه به مُخبراً إياه أنه محاصرٌ مع تسعةٍ آخرين. وعلى وقع إطلاق النار سأل ابن العم المحاصر أبا المجد: "ماذا ينبغي أن نفعل؟". طار صواب أبي المجد: "نحتاج إلى 10000 جنديٍّ، وليس فقط 10 جنود. تصوّري، إنهم يضعونهم في ذلك المكان ليُلاقوا حتفهم".
"إنني أنتحر"
في 14 أيار اجتاح مقاتلو الدولة الإسلامية مدينة السُّخنة. كان أبو المجد في إجازةٍ عندما وصل المتطرّفون إلى حدود تدمر. حاولت أمه أن تُبقيه في دمشق بإخفائها بطاقته الشخصية لكنه قرّر الذهاب في اليوم التالي، وسرعان ما عَلِمَ أن وحدته ستُرسَل إلى تدمر. قال القادة إنهم سيُبلّغون عن أيّ شخصٍ يتخلّف. "إنني أنتحر. إنني أمشي نحو الموت بقدمي، لكني لا أستطيع فعل أيّ شيء. لا تسأليني عن وقت رحيلي، فأنا أكره هذا السؤال. ليتني لا أستيقظ غداً".
16 أيار: شارك بوست صديقٍ على فيسبوك: "الله الله أيها الوطن. أبطالك في القبور، ولصوصك في القصور".
17 أيار: وصل إلى حمص وذهب إلى عرّافةٍ. شاهدته العرّافة ينتقل إلى مكانٍ بهيج "أخضر تحيط به الأشجار". الجنّة؟.
18 أيار: ألغامٌ أرضيةٌ على الطريق إلى تدمر أجبرت حافلته على العودة.
19 أيار: الصور الأخيرة.
بعد ذلك: لا شيء. تجمّد آخر ظهورٍ لأبي المجد على وسائل التواصل الاجتماعيّ عند: "أنا في تدمر. أعزائي الغوالي، لا تحزنوا عليّ. إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
كيف انتهى الأمر
بعد سيطرة التنظيم على المدينة اختبأ أبو المجد في بيت عائلةٍ يعرفها، لكنه غادر بعد 8 أيامٍ حفاظاً على سلامة العائلة. استطاع أحد عناصر التنظيم التعرّف عليه في أحد المساجد. أخبرتنا إحدى النسوة لاحقاً: "شاهدت عشرة مقاتلين داعشيين بوجوههم المخيفة. كان أحدهم يمسك السيف. قطعوا رأسه أمام عينيّ".