تنقسم مدينة دير الزور منذ ثلاث سنواتٍ بين الأحياء الخارجة عن سيطرة قوّات النظام، وهي الأحياء التي تشكّل مركز المدينة أو ما يسمّى حالياً (البلد)، والأحياء الطرفية التي تسيطر عليها قوّات النظام (الجورة والقصور خصوصاً) وحيّ هرابش.
وينقسم ساكنو المنطقتين تبعاً لذلك إلى (أهل البلد) الذين اضطرّوا إلى النزوح بسبب قصف النظام، و(أهل الجورة والقصور) الذين لا زالوا يقطنون في منازلهم "وما إجاهم شي"، بحسب التعبير الدارج الذي يظهر في معرض المفاضلة بين ساكني المنطقتين منذ حصار جيش النظام للمدينة نهاية 2012 واستحالة التواصل بينهما.
قد يعبّر هذا التقسيم عن واقعٍ اقتصاديٍّ مفاده أن أحياء الأطراف تحوي اليوم فئاتٍ متوسطةً من الموظفين الحكوميين من عموم المحافظة، لكنه لا يعبّر بأيّ حالٍ عن أيّ انقسامٍ اجتماعيّ. فسكان (البلد) نزحت غالبيتهم بأكثر من اتجاه، أحدها الجورة والقصور، كما أن كثيراً من (أهل الجورة والقصور) تركوا منازلهم لأسبابٍ على رأسها الأمنية، مع ملاحظة أنه لا يوجد أيّ تقسيمٍ عائليٍّ أو عشائريٍّ أو مناطقيٍّ سابقٍ يمكن أن يعزل المنطقتين ويجعلهما شديدتي الاختلاف. لكن منذ أصبح من الممكن التنقل بين قسمي المدينة عن طريق النهر، في بداية 2013، والخلافات تتسع بين ساكنيهما. وقد بدأت من واقع أنه ليس جميع ساكني (الجورة والقصور) من مؤيدي النظام والعكس بالعكس. ثم راح الطرفان، كلٌّ من موقعه السياسيّ الجديد، يشنّع على الخصوم الجدد، وبدأت تنطلق حملات التشهير المتبادلة. لتنتقل الاتهامات بوتيرةٍ متصاعدةٍ مع أحاديث تفيد بفرحة البعض أثناء قصف (البلد)، وسرقة البعض ممتلكات النازحين إلى (الجورة والقصور). ثم أخذ الأمر يتطوّر ليختلط العداء بالاعتراض على طريقة حياة شرائح من النساء واختلاطهنّ بعناصر النظام (أنشئت صفحاتٌ على الفيسبوك بدعوى فضحهنّ)، قابلته موجة طعنٍ بوضع ساكني (البلد) الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، واتهام الثوّار بممارسة التشليح والسعي إلى الإثراء. لكن احتجاج الكثير من الناشطين في (البلد) على حصار أحرار الشام، نهاية 2013، للجورة والقصور تجاوز كلّ ذلك، رغم الدعوات الملحة وقتها من بعض الكتائب للهجوم على الحيّين والتمهيد لذلك بقصفهما.
لم يتغيّر الأمر كثيراً اليوم، فما إن يفتح تنظيم الدولة الاسلامية معركةً ضدّ قوّات النظام في دير الزور حتى يعود الجدل إلى الواجهة، جدل المفاضلة بين النظام والتنظيم الآن، ويعود معه القدح بساكني هذه المنطقة أو تلك. لكن ما زاد الأمر سوءاً حوادث سحل النظام جثث قتلى التنظيم في الجورة، أو عرض التنظيم جثث من يقتلهم من قوّات النظام دون رؤوسٍ في البلد، وبطبيعة الحال تعود بعض هذه الجثث إلى شبانٍ من دير الزور لا يستطيع أقاربهم التصرّف حيال الأمر. بالإضافة إلى (فتاوى) بتكفير أهل الجورة والقصور أطلقها عناصر محليون في التنظيم، قبل أن يصدر الأخير موقفه الرسميّ، في الشهر العاشر من العام المنصرم، بعكس ذلك. على أن الأوضاع المتردية للسكان في الجورة والقصور بسبب الحصار المستمرّ حتى الآن خففت كثيراً من وطأة التقسيم، وجعلت الكثير من أهالي (البلد) والثوّار يتعاطفون معهم.
وبرصد مواقف الناشطين نلاحظ أن بعضهم، ورغم أنه مطلوبٌ للتنظيم أو لا يخفي عداءه له، قد اختار الوقوف إلى جانبه أو الترويج له والتعاطف معه في معركته مع النظام؛ "فالدولة تليقي كثيرين يساعدونك بحربك ضدها، بس النظام نقاتلو لوحدنا" كما يقول أحدهم، أو "داعش أفضل من النظام" كما يقول غيره، و"قلنا لهم يطلعون" للخلاص من مأساة الحصار كنوعٍ من الاستسلام النهائيّ. ومما يعبّر عن ذلك أيضاً ازدياد عدد متابعي صفحات الأخبار المحلية إلى ثلاثة أضعافٍ تقريباً أثناء التغطية الحماسية لتقدّم التنظيم، ليظهر في ما بعد الحرج من هذا الحماس بحذف الأخبار تدريجياً أو بتعديلها لتظهر بصفةٍ محايدة. وعلى الطرف المقابل فإن مما له بالغ الدلالة هنا أن تجد عباراتٌ تترحّم على قتلى النظام، أو تبشّر باقتراب سيطرة جيش الأسد على المدينة، طريقها إلى هذه "الصفحات الثورية" دون أيّ تعليقٍ من المتابعين، وهو ما لا نظير له في الصفحات السورية المماثلة.
على أن الكثير من متابعي هذه الصفحات لا يدع مناسبةً إلا ويذكر فيها تشابه النظام والتنظيم. وبالمقابل تدور المماحكات ولا تنتهي حول ما قدّمه أهل الريف أو أهل المدينة للثورة، أو ما أسهما فيه من تدمير المدينة أو استقبال داعش!