- الرئيسية
- مقالات
- ترجمة
إعلام الأسد يحتفي بميداليةٍ ذهبيةٍ في الرياضة بينما سوريا تحترق
أبيغال فيلدينغ/ فورين بوليسي/ 30 حزيران
ترجمة مأمون حلبي
في 29 أيار 2015 حملت الصفحة الرئيسية لموقع الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) العناوين التالية: "ساعة حمص تدقّ من جديدٍ معلنةً عودة الحياة إلى المدينة القديمة"؛ "الجيش يحبط هجوماً إرهابياً في درعا"؛ "المقداد: نضال سوريا الأسطوريّ هو نتيجةٌ لإنجازات شعبها"؛ "سوريا تفوز بالميدالية الذهبية في الوثب العالي في بطولة موسكو المفتوحة". لكن الواقع كان أقلّ ورديةً بكثيرٍ مما كانت توحي به هذه العناوين. ففي الأسابيع السابقة استولى المتمرّدون على مركز محافظة إدلب، وهبطت قيمة الليرة بشكلٍ سريعٍ ومفاجئ.
للوهلة الأولى، تبدو عناوين سانا شبيهةً بالسلوك النمطيّ لحكومةٍ استبداديةٍ تحاول أن تخدع الناس بالاعتقاد أن النظام أقوى وأكثر قدرةً مما هو عليه فعلياً. لكن، لدى التمحيص، لا يبدو هذا الأمر دافعاً كافياً. فالوصول متاحٌ إلى مجموعةٍ من مواقع الإنترنت والقنوات الفضائية التي تقدّم صورةً تختلف عما تقدّمه سانا، عدا عن أن السوريون يعرفون أن الأمور ليست على ما يرام من ناحية المعارك، عندما لا يعود جنود مدنهم وقراهم إلى بيوتهم. وبشار الأسد نفسه اعترف، في حديثٍ علنيٍّ في أيار الماضي، بمشكلاتٍ عسكرية. إن كان الإقناع أو التعبئة العقائدية ليسا الهدف، فما هي وظيفة هذه الأخبار الرسمية المحبوكة بطريقةٍ خدّاعة؟ بعد أربع سنواتٍ من حرب استنزافٍ مدمّرة، يستحيل أن يوجد أناسٌ كُثر يتلفتون فيجدون سوريا التي تتكلم عنها الأخبار الرسمية؛ حيث الجيش "يحبط مخططات" الإرهابيين، والمواطنون في وقت راحةٍ ليستمتعوا ببطولات الدراجات. فما هو نوع لعبة الإشارات المعقدة التي ينخرط فيها النظام وناسُه؟
لكي نبدأ بفهم استخدام الأسد للدعاية التعبوية، علينا أن نعود إلى حكم والده، حافظ، الذي استولى على السلطة واستطاع، عن طريق الأيديولوجيا البعثية العلمانية والقمع الشديد، أن يشكّل الدولة على صورته، ولا تنفصل عن شخصه، الذي كان يُقدَّم على أنه موجودٌ في كلّ مكان. كان المديح المبالغ فيه للقائد كاسحاً، وجزاء انتهاكه كبيراً. كان حافظ سيء الصيت لقمعه الوحشيّ لانتفاضة الإخوان المسلمين، عام 1982، حين قُتل آلاف الناس وسوّيت مدينة حماة بالأرض، لكن الخوف الذي ولَّده امتدّ متجاوزاً الحدث، عن طريق منظومةٍ بوليسيةٍ شجّعت المواطنين على الإبلاغ عن سلوك بعضهم لأجهزة المخابرات. "من اللحظة التي تغادر فيها بيتك تسأل ماذا يريد النظام؟"، هذا ما قاله أحد السوريين لليزا وادين، أستاذة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو. "يكرّر الناس ما يقوله النظام، ويصبح التنافس حول من يستطيع أن يمتدح الحكومة أكثر. الجميع يعرف من يعرف اللغة أفضل ومن هو على استعدادٍ لاستعمالها. أولئك الذين يحترمون أنفسهم يقولون أقلّ". وكما تلاحظ وادين، الادّعاءات أن هذه اللغة كانت تطلب من الناس أن يلتزموا بها سخيفةً بكلّ وضوح؛ مثلاً، أن حافظ كان الصيدلانيّ الأوّل في البلاد. لم يكن النظام مهتماً بخلق قناعةٍ حقيقيةٍ، فقط المظهر الخارجيّ هو المهم. بعد التفكير المعمّق في سبب إصرار النظام على متلازمات الولاء الخارجية تستنتج وادين أن الزيف نفسه هو الهدف: "تكمن قوة النظام في قدرته على فرض هذه التلفيقات الوطنية، وعلى جعل الناس يقولون ويفعلون ما كانوا سيرفضون فعله وقوله لولا هذه التلفيقات. هذه الطاعة تجعل الناس متورّطين، وبالتالي تجعل من الصعب بالنسبة إلى المشاركين أن يعتبروا أنفسهم ضحايا لنزوات الدولة".
عندما جاء بشار إلى السلطة بعد موت والده، اعتبره الناس نسمةً من الهواء النقيّ. فهو قد ساعد على إدخال الإنترنت وقاد بعض الإصلاحات المحدودة، لكن الملموسة. بدا ذي شعبيةٍ، وكانت تجري تحيته بتصفيقٍ متحمّسٍ حيثما ذهب، مع أنه من الصعب الحكم على مدى عمق ذلك. الطبقات المدينية المتوسطة، على الأقلّ، كانت تشعر أنه يمثل طموحهم بالنسبة إلى سوريا. إحدى النسوة، وكانت تتبضع في أحد مولات دمشق، هزّت رأسها متعجبةً عندما تذكرت غياب ضروريات العيش في الاقتصاد الذي سبق الإصلاح: "لم يكن ثمة وجودٌ لحفاضات الأطفال ولا للحليب أو الموز. كان لدينا فقط برتقال وتفاح!".
ولكن، بالرغم من الراحة الطفيفة، فإن المنطق الذي كان يدعم حجّة النظام كان نفسه، وعندما انتُهكت قواعد لعبته ردَّ بعنفٍ غير متناسب. وعندما اعتقل فتية درعا وعذّبهم اندلعت الاحتجاجات ردّاً على ذلك وامتدّت بسرعةٍ إلى أجزاء أخرى من البلاد. وبشكلٍ متزايدٍ، ركّز المحتجون على رموز النظام. وفي فيديو بعد آخر تمّ تحميلها على اليوتيوب، كانت صور بشار تُحرق، وتماثيل حافظ تُحطّم في حملة تطهيرٍ بصرية. مضى أسبوعان قبل أن يدلي الأسد بتصريحٍ علنيٍّ. كان المتفائلون يأملون أن هذا الرئيس الشاب، الذي تعلّم في الغرب، سيقدّم تنازلاتٍ تاريخيةً، ورؤيةً شاملةً تنقذ البلاد. لكنه، عندما حان الوقت، كرّر أمام البرلمان حديثه المنمّق المألوف عن الإصلاح وعن أن سوريا موضوعٌ لمؤامرةٍ دولية، مدّعياً أن الاحتجاجات تمّ التأثير والسيطرة عليها لإضعاف دور سوريا كدولة "مقاومة". صفق أعضاء البرلمان له، لكن حتى السوريين الذين لا ينتمون إلى المعارضة صُدموا من قلّة ما قدّمه الخطاب. وباستثناء بعض التلميحات الهادفة إلى التهدئة، لم يستثمر الأسد الكثير من الرأسمال السياسيّ في محاولة كسب الأغلبية السنية الريفية. ويبدو أن خطاباته كانت تهدف بشكلٍ رئيسيٍّ إلى إنعاش مؤيديه: العلويين؛ الشيعة؛ المسيحيين؛ الطبقات المدينية المتوسطة.
منذ البداية، كان كلا الطرفين منخرطاً في حرب التصوّرات. أرادت المعارضة أن تخلق الانطباع أن الزخم كان معها وأن النظام كان يعاود اللجوء إلى البربرية، في حين كان النظام في حاجةٍ إلى أن يجعل الناس يعتقدون أن الاضطرابات قد تمّ احتواؤها وأن ردّه كان متناسباً ومسؤولاً. ولكي يفرض روايته للأحداث، لم يكن بوسع الأسد أن يمنع الناس من مشاهدة فيديوهات الاحتجاجات وعمليات القمع التي كان يسجّلها الناشطون، فالقنوات الفضائية في كلّ مكان. لكن، في حين أنه لم يكن بمقدوره حذف هذه الفيديوهات، كان يستطيع أن يجعل الناس يشكّكون في مصداقية المادة التي تقدّمها المعارضة. ولإنجاز هذا الأمر، صنّفت وسائل الإعلام الموالية للأسد القنوات الإخبارية الأجنبية كجزءٍ من "المؤامرة" ضد النظام. في أيلول 2011 زعمت قناة الدنيا أن قطر قد بنَتْ نسخاً طبق الأصل للساحات الرئيسية في المدن السورية لكي تنظم الاحتجاجات فيها، ويتمّ تصويرها من قبل مخرجين فرنسيين وأميركيين وإسرائيليين. وكما شرح صحفيٌّ سوريٌّ في الفايننشال تايمز، الهدف من هكذا مزاعم غريبةٍ لم يكن إقناع الناس بصحّتها بقدر ما كان إفساد المشهد المعرفيّ. "الهدف هو تشويش الناس. ليس من الضروريّ حتى أن يقتنعوا بذلك، طالما أن هذا يجعلهم مشوّشين وغير متأكدين مما يجري فعلياً". وساعدت إستراتيجية التشويش الأسدية واقعة أن القنوات الفضائية على امتداد العالم العربيّ كانت تملكها نخبٌ من أقطار الخليج ملتزمةٌ صراحةً بالإطاحة بنظامه. وساعد أيضاً أن عناصر من المعارضة قد أشاعوا مزاعم كاذبةً لتقوية روايتهم. ساعد هذا المنطق النظام دولياً أيضاً. في مقابلاتٍ مع وسائل الإعلام العالمية، أنكر الأسد بشكلٍ قاطعٍ استعمال الأسلحة الكيماوية أو البراميل ضد شعبه.
وبينما تواصلت الحرب الأهلية في البلاد، كانت أولوية النظام محلياً إقناع قوّاته بالقتال. هناك اعتقادٌ أن الجيش قد تناقص إلى النصف، مما جعل النظام يعتمد على قواته اللانظامية بشكلٍ كبيرٍ، لا سيما من الجماعة العلوية، المطعّمة بمقاتلين شيعةٍ من لبنان والعراق. تقليدياً، كان النظام يشجب الخطاب الطائفيّ في قنواته الرسمية، ومع ذلك يعتمد جنوده على حسّ الجماعة وعلى إدراكهم لتهديدٍ مشتركٍ تخلقه الهوية الطائفية. وحتى عندما كان النظام يعهد بالوظائف الأمنية الحيوية للدولة إلى ميليشيات طائفية، بقيت كلمات "سنّي" و"علويّ" محرّمةً في وسائل الإعلام. فائدة هذا النوع من التغطية هو أنه يدلل على الحضور المستمرّ للدولة. قد يكون الخوف من أن يُقتلوا على أيدي المسلحين الإسلاميين هو ما يدفع العلويين إلى القتال، لكنهم في حاجةٍ إلى أن يشعروا أن ما يقاتلون من أجله هو الدولة وليس أمير حربٍ طائفيّاً. على المدى الطويل لا يمكن لحربٍ طائفيةٍ إلا أن تنتهي نهايةً سيئةً للأقلية. قصص وكالة سانا المملة تحجب حطام المدن بخطابٍ مألوفٍ عن الدولة البعثية، وضمن الخيارات الموجودة في الشرق الأوسط الحاليّ ربما ليس من المدهش أن بعض الناس يواصلون التصرّف "كما لو" أنهم يؤمنون بهذا الخطاب. أحياناً، حتى دولةٌ خياليةٌ يتمّ تفضيلها على البديل.