يكاد الموقف من إســـرائيل هو المسألة الوحيدة التي يتّفق عليها جمهور الثورة مع موالي النظام الأسديّ. إذ لطالما عزا الثوّار أسباب تأخر النصر على بشار البرميلي إلى وقوف إسرائيل إلى جانبه، أو على الأقل منعها الدول الكبرى من التدخل لصالح الثورة، لأن حدود الجولان هادئة. وفي نفس الوقت كرّر الأسد وأتباعه فكرة المؤامرة التي (تقودها إسرائيل وأدواتها لإضعاف سوريا)، وأخرج إلى الشاشات ترّهاتٍ إعلاميةٍ لتأكيد صدق روايته حول ارتباط الثورة بإسرائيل، وتوعّدت أبواقه الإعلامية باسترداد الجولان، ليحشد مؤيّديه ضد الثورة والثائرين.
تنطلــــق وجهــــــتا نظر العـــــداء لإسرائيل هاتان من أسسٍ نظريةٍ واحدة، وهي أن من مصلحة الدولة العبرية أن تخرّب سوريا وتشغلها بالحروب والاقتتال الداخلي، مما يستنفد قدراتها ويمنعها من التفرغ لمقارعتها. لكن، متى كان لسوريا، أو لغيرها من "دول الطوق"، القدرة على منازلة "الكيان الغاصب" عسكرياً أو غير ذلك؟ وخصوصاً إذا استعرضنا تاريخ المشاركـــــات الســــورية في حروب النكبة والنكسة وتشـــرين، حينما كانت قضية فلسطين هي القضية المركزية للعرب بحسب أدبيّات القومية العربية المهزومة في كل تلك الحروب. فعلى خطٍّ متصلٍ تشير أدبيّات الهزيمة العربية دائماً إلى وجود مؤامرةٍ ما، اشترك فيها العملاء، أدّت إلى الهزيـــــمة. ففي حرب 1948 اتُهم الملك فاروق بشراء أسلحةٍ فاسدةٍ أدّت إلى خسارة الحرب ـ وكانت هذه الرواية أحد أهم أسباب ثورة 1952 التي أحضرت معها جمال عبد الناصر إلى السلــطة لاحقاً ـ وهذا الاتهام عصيٌّ على التصديق إذا علمنا أن تعداد جيش الإنقاذ في حرب 1948 ضد إســــرائيل كان لا يكفي لملء ملعب كرة سلة (3830 مقاتلاً، بحسب الجامعة العربية). وفي حرب 1967 يحمّل كثيرون الملك الأردنيّ مسؤولية الهزيمة، كما يلصقونها بوزراء دفاع دول الطوق، ومنهم حافظ الأسد الذي جاء هو الآخر بانقلابٍ بعد الحرب، والذي لم يعرف يومها لا الحروب ولا الخبرة العسكرية ولا من يحزنون. أما في حرب تشرين المزعومة فقد روّج النظام السوريّ لرواية خيانة أنور السادات، وصدّقها السوريون دون أن يعرفوا الحقائق التي كان أهمّها أن الجيش الإسرائيلي كان على مرمى مدفعيةٍ من دمشق. بينما تحدّث السادات بدوره عن "خيانات البعث السوريّ"، دون أن يعترف لمواطنيه أن الجيش الإسرائيليّ كان سيجد في طريقه إلى القاهرة في حال استمرّت الحرب لأسبوعٍ آخر.
فهل بقاء النـــــــظام أم زواله هـو السيناريو المفضّل؟
لإسرائيل مصالح ووجهة نظرٍ في ما يجري، كسائر الدول البعيدة والقريبة التي تلعب وتتدخل في "الشأن السوري"، مع فارق أنها تقبع على حدود سوريا. وأيضاً لأن الأخيرة ما زالت دولةً عدوّةً لم توقّع اتفاقية سلام، كما فعلت مصر والأردن، وما زالت تدعم منظماتٍ تعدّها إسرائيل إرهابيّةً، مثلما يعدّ الثوّار الآن حـــزب الله حزباً إرهابيّاً ومجرماً. لكن، في نفــــس الوقت، لم تقم الدولـــة المحتلة بأية نشاطاتٍ مباشرةٍ لترجــــيح كفة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر، فلم تساهم بتمويل أو بدعم الثورة بالطبع، ولا بتقديم أيّ نوعٍ من الدعم يمدّ في عمر النظام، كما تفعل روسيا وإيران أو حتى الصين.
وبنــــــــاءً على ما سبــــــــق، يعرف الإسرائيلـــيون جيـــداً أن لا وجــود لخــــطرٍ واقعيٍّ يهدّدهم من حدودهم الشمالية، لا الآن ولا في المستقبل، وبضع قذائف هاونٍ بين الحين والآخر ليست مشكلةً عصيّةً على الحل في حال تعقدت الأمور. كما أنهم يدركون أن النظام الأسديّ زائلٌ لا محالة بعد أن استخدم أسلحته الكيماوية العفنة ضد شعبه، والتي لم تكن لتطير حتى تسقطها أنظمة الدفاع الحديثة في حال تجرأ النظام على فعل ذلك ضدهم. أما الآن، وبعد بدء برنامج تشليح النظام الكيماويّ من سلاحه، فهم راضون عن عدم وقوع هذا النوع من السلاح في أيادٍ أخرى قد تعكّر مشاريع إقامة اتفاقيةٍ تضمن لهم أكبر قدرٍ من الاستقرار في المستقبل، ولا يشغلون بالهم كثيراً بشؤونٍ كارثيةٍ معقدةٍ كشؤوننا، تبدأ بالنزاع المذهبي ولا تنتهي بالحرب على شارعٍ في حيٍّ في قريةٍ سوريةٍ نائية.