القصير | كانون الثاني 2012 | من أعمال Alessio Romenzi
طال زمن الثورة أكثر مما كان الثائرون يتوقعون بكثير، وارتفعت كلفتها البشرية والمادية فوق أحلكِ تصوّراتهم تشاؤماً. وأدّى طول المدّة إلى إنهاك قطّاعٍ واسعٍ من جمهور الثورة، من أناسٍ معرّضين لخطر القصف، أو قاطنين على خطوط التماسّ الكثيرة الرجراجة لكن الثابتة، أو نازحين في الداخل والخارج.
ومن جانبٍ آخر، تراجع حضور حالات النبل والإيثار التي تتّسم بها الثورات عادةً، لصالح تحوّل الوضع الراهن إلى نمط حياةٍ. وهذا أمرٌ طبيعيّ، إذ من غير المتوقّع استمرار حالة التسامي والفداء لوقتٍ طويلٍ إلا عند أفرادٍ قلائل، ولأسبابٍ خاصّة ترتبط بتكوينهم الأيديولوجي أو الشخصي. أما «عموم الناس»، وهم المعوّل عليهم في حالة ثورةٍ شعبيةٍ كهذه، فمن المألوف أن يرتقوا في أوقاتٍ نادرةٍ أو قليلةٍ إلى ذُرا أخلاقيّة متميّزة، ثم يعودوا إلى طبائعهم المعتادة. وما دمنا لا ننتظر ثورة شعبٍ من الأنبياء؛ فلننسَ - مؤقتاً –
شلال النبل والفرح الذي انبثقت به الثورة، ولنتقبّل تنافس النازحين في المدارس - إلى حدّ العراك - على حصّة مكانٍ بائسةٍ أو على دور مياه الشرب، وخداعهم المحترف لمنظّمات الإغاثة المختلفة وتلاعبهم في تعداد الأفراد وحاجات الأسر. ولنعرف أن المقاتل العشريني – أو الأكبر – في الجيش الحرّ قد عاش عمره كلّه تحت وطأة التهميش وكبت «الرجولة»، ولم يجد نموذجاً للقوّة يحتذيه سوى ما كان يراه من سلوك جلاديه السابقين من رجال أمن النظام، وسياراتهم «المفيّمة» السريعة، وتعدّيهم على حقوق الناس. ولنفهم الدُوار الذي أصاب ناشطي الثورة بعد أن خرجوا من العتمة إلى أضواء لم تكن تخطر لأغلبهم على بال، فأصابتهم عيوب جنون العظمة وتضخم الأنا والإعلاء من قيمة الذات، وتهميش الأقران ومعاداتهم بأساليب تنطلق من التبخيس وتنتهي بالضرب، مروراً بالتآمر وتشويه السمعة. يكاد يستوي في استخدام هذه الأساليب معظم الناشطين، بدءاً من أصغر إعلاميٍّ محلّيٍّ في منطقةٍ هامشيةٍ وحتى أعلى مستويات المعارضة السياسيّة في الائتلاف.
فلنعرف كلّ ذلك وأكثر منه، ولنتفهّمه، ولنتقبّله – مؤقتاً فقط، ولا شك ـ إذ إن السبب في كل ما ذكرنا عناوينه، ويعرف الناس تفاصيله بشكلٍ ممل؛ أن السوريين رجعوا إلى «طبائعهم» بعد أن انحسر تأثير موجة النبل التي أشرنا إليها، وعادوا السوريين الذين نعرفهم بشكلٍ جيّد، الذين لم يراهن على ثورتهم أحدٌ عندما بدأ فجر الربيع العربيّ يطلّ من مصر وتونس، بل كان الذي يتوقّع امتداد أثر هذا الربيع إلى سورية أشبه بالحالم الذي يستحقّ الإشفاق... أو حتى السخرية. ولكنهم فعلوها، ليقولوا - لأنفسهم أولاً ـ كلاماً جديداً عليها، وهو أنهم يستحقون الحريّة، بالضبط بسبب الأمراض التي صارت معالمها تتبدّى، والتي صارت تدفع بالبعض إلى السؤال باستنكار: «هادا شعب بيستاهل حريّة؟!»
نعم... هذا الشعب يستأهل الحريّة لا لأنه مكوّنٌ من أحرارٍ متوازنين يتقنون التعايش والاختلاف، ولو كانوا كذلك أصلاً لما تسلّط عليهم حكم آل الأسد، بل بالضبط لأنهم فقدوا ذلك؛ لأن قلوبهم شتّى وحواراتهم موؤودة ونفوسهم مسمّمة بالخوف والطمع، هم يستحقون أن يخرجوا إلى الهواء الطلق ويوضعوا تحت الشمس. إذ ليست الحريّة بالنسبة إليهم ترفاً، بل حاجة ملحّة كإلحاح نقل المريض إلى المشفى، بعد أن تسرطنت معظم نفوسهم بأمراض عهد الأسد، واستنقعوا من الداخل كما استنقعت حياتهم السياسية من الخارج. فلم تكن صرخاتهم الأولى، في آذار 2011، إلا كصرخات المريض الذي استفحل داؤه وتكاثرت علله.
تورّط المريض... وصار عرضةً لأدق أجهزة التحليل وأرقى أشعة التصوير، فبان من عيوبه ما كان مستوراً، وكُشف منها ما كان مجهولاً، فإذا به هزيلاً، حائراً، زائغ البصر، محتضِرَ البصيرة. ولكن إعادته إلى قبوه المظلم والرطب صارت مستحيلة، ولم يعد أمامه من خيارٍ سوى طريق العلاج، مهما كان طويلاً وشاقاً، ففي آخر هذا النفق شمسٌ ساطعة.