هيئة تحرير الشام تقيم منظومة اقتصادية واسعة في مناطق سيطرتها

بقضائها على حركة نور الدين الزنكي، تمكنت "هيئة تحرير الشام" من استكمال بسط سيطرتها العسكرية على ما تبقى من الشمال الغربي لسورية (عدا ريف حلب الشمالي الذي يخضع لنفوذ قوات الجيش الوطني تحت إشراف تركي)، وباتت تتسلم الإدارة المالية والاقتصادية لمحافظة إدلب وما حولها التي تشكل الجيب الأخير للمعارضة في سوريا.

ورغم المواجهات العسكرية العنيفة المتواصلة مع قوات النظام، نجحت هيئة تحرير الشام بالإمساك بقوة بالحركة الاقتصادية في هذه المنطقة التي يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين شخص، فسيطرت على المعابر التي تدر أموالاً طائلة، واحتكرت تجارة المحروقات والتغذية بالانترنت، حتى وصل بها الأمر إلى الاستثمار في قطاع المطاعم.

 تجارة المحروقات المربحة

استغلت هيئة تحرير الشام أزمة الغاز المستفحلة على خلفية عملية "غصن الزيتون" ربيع العام 2018، لتحصل على عقد مع تجار أتراك يقضي باستيراد مادة الغاز المسال والبنزين والديزل من تركيا عبر معبر باب الهوى. وهكذا أعلن عن تأسيس شركة "وتد للبترول" التي تنفي تبعيتها للهيئة، في حين أن مصادر مجلة عين المدينة تؤكد أنها إحدى أهم شركات الهيئة في إدلب، وقد تمكنت تدريجياً من الاستحواذ على أكبر تجارة رائجة ومربحة في المنطقة وهي تجارة المحروقات.

لا بد من الإشارة هنا، إلى أنه قبل تأسيس "وتد للبترول" كانت المحروقات من بنزين ومازوت وغاز، تدخل من مناطق النظام عبر معبر أبو دالي الذي يقع في أقصى الجنوب الشرقي من محافظة إدلب، لكن النقص الكبير في هذه المواد الذي بات يعاني منه النظام أوقف تمريرها إلى المنطقة.

وبعد الإعلان عن قيامها، بات الغاز يأتي من تركيا عبر صهاريج ويضغط في معامل خاصة بالشركة في مدينة سرمدا الحدودية، ثم يوزع إلى كافة أرجاء المحافظة في جرار زرقاء اللون بتسعيرة موحدة تعتمدها الشركة. وهذا ما يحدث تماماً بالنسبة إلى مادتي المازوت والبنزين.

أدت هذه الخطوة إلى تقلص أزمة المحروقات التي كانت شبه متواصلة، كما ساهمت في استقرار الأسعار التي كانت ترتفع لعدة أضعاف خلال الأزمات السابقة. لكن وجود شركة واحدة تدير استيراد مثل هذه المواد الهامة لم يؤدِ إلى انخفاض الأسعار -وإن بقيت مستقرة- نتيجة غياب المنافسة، كما لم يتح لهذه الشركة تلبية كل ما يحتاجه السوق من غاز مثلاً، خصوصاً عند حدوث نقص في مادة الديزل المكرر بشكل بدائي التي يعتمد عليها السكان في التدفئة، ما يضطرهم إلى الاعتماد على مادة الغاز كحل بديل.

 المعابر والذهب الأسود

في شتاء العام 2019 نشب قتال عنيف في ريف حلب الغربي بين قوات "حركة نور الدين الزنكي" -التي كانت تسيطر على هذه المنطقة- وقوات تحرير الشام، رغم التحالف الذي قام بينهما لفترة من الزمن. وانتهت هذه المعارك بهزيمة قوات الزنكي التي أجبرت على الانسحاب إلى مناطق الجيش الوطني في عفرين. ولم يؤدِ ضرب الزنكي إلى تحقيق نجاح عسكري للهيئة فحسب، بل مكنها من السيطرة على معابر استراتيجية كانت تديرها الزنكي، وأهمها معبر الغزاوية-دارة عزة الذي يقع بريف حلب الغربي، ويربط بين أماكن سيطرة تحرير الشام والمناطق التي يديرها الجيش الوطني. ومن هذا المعبر بالذات وسعت شركة "وتد للبترول" تجارتها لتشمل إضافة للمحروقات المستوردة من تركيا، تجارة المحروقات المكررة بدائياً التي تمر من مناطق "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) شرقي الفرات نحو منبج ثم جرابلس، لتعبر أخيراً حاجز تحرير الشام على معبر دارة عزة ومنه نحو إدلب.

ولم يمر احتكار الهيئة لتجارة المحروقات المحلية مرور الكرام لدى تجار المحروقات في المنطقة، الذين تضررت تجارتهم بعد أن غدت بيد جهة واحدة تتحكم بالأسعار والكميات والأصناف الممررة عبر المعبر. خلال سيطرة حركة الزنكي كان بإمكان التجار إدخال بضائعهم عبر معبر دارة عزة دون أي متاعب، لكن في عهد تحرير الشام باتت جميع صهاريج المحروقات تدخل عبر شركة "وتد" ثم تفرغ في المخازن والمحطات التابعة لها، وعلى جميع التجار التعامل مع الشركة لشراء المحروقات بالأسعار والكميات التي تحددها وحدها.

 يقول أحد تجار المحروقات لعين المدينة مفضلاً عدم الكشف عن اسمه "حتى عملية تسليم ثمن البضاعة لها إجراءات معينة، فعلى التاجر دفع المال لبنك شام التابع للهيئة ثم يستلم بضاعته من أرض الشركة". ويقول بعض هؤلاء التجار أنه عند حدوث أزمة ما في المحروقات المستوردة، كتقلص الكمية من المصدر التركي، تمتنع "وتد" عن البيع للتجار عدا التجار المحسوبين عليها.

واشتكى ثلاثة من تجار المحروقات في حديث مع عين المدينة من هذه الطريقة في التعامل، خصوصاً خلال فترات النقص. وقال أحدهم "الشركة توزع المازوت أو البنزين أو الغاز لمحطاتها فقط أو لتجار محسوبين عليها، بينما تحظر علينا شراء أي كمية من المحروقات حتى ولو كانت قليلة". ويوضح التجار الثلاثة أن الإجراء نفسه يطبق عند إغلاق معبر أم جلود-الحمران الذي ينقل الوقود بين منبج التي تقع تحت نفوذ قسد وجرابلس التي يديرها الجيش الوطني المدعوم من تركيا. ويوضح أحدهم أنه في هذه الحالة "تكون الكلمة الفصل للمستفيد من الواسطات والمحسوبيات ولا يحصل على المحروقات سوى جماعة الهيئة".

ولا يبدو أن المحروقات توزع على كل المناطق بالتساوي، بل يخضع الأمر أحياناً لاعتبارات عدة أهمها خضوع عملية توزيع المحروقات لمدى تغلغل الهيئة وذراعها المدني المتمثل بحكومة الإنقاذ في منطقة ما، وهذا ما ينعكس سلباً على الواقع المعيشي للسكان. ففي إدلب مثلاً التي تكثف فيها الهيئة وجودها، أقامت "وتد" أربع محطات لتوزيع البنزين، وهي محطات "الأفندي" و"السعد" و"خيرات الشام" و"المدينة"، ما جعل البنزين يتوفر بسعر مقبول. بينما تعتبر هذه المادة الحيوية من ضمن المواد المفقودة في مدينة بنش القريبة -خلال الأزمة الراهنة- بسبب عدم توفر أي محطة بنزين تابعة للشركة في المدينة.

وفي بلدة الفوعة توقفت عن العمل المولدة الكهربائية التابعة لأحرار الشام التي تؤمن التغذية الكهربائية لقسم كبير من المدينة لقاء اشتراكات شهرية محددة، في حين لا تزال مولدة مماثلة تابعة لهيئة تحرير الشام في المدينة تعمل يومياً لمدة ساعتين ونصف ساعة. والسبب كما يقول سكان تحدثوا لعين المدينة أن "الهيئة تحصل على الديزل من شركة وتد بكميات لا بأس بها، أما أحرار الشام فلا علاقة لها بشركة وتد وهذا ما جعل وصول هذه المادة إليها أمراً بالغ الصعوبة".

 الإنترنت التركي الضوئي

تعتبر مسألة احتكار الإنترنت الضوئي الذي يستجر من تركيا عبر أكبال تحت الأرض ويبث في إدلب بواسطة نواشر خاصة، إحدى القضايا الساخنة بين السكان ومشغلي الإنترنت في الوقت الراهن.

وكما فعلت هيئة تحرير الشام في قطاع المحروقات عبر تأسيس شركة وتد للبترول، أطلقت في تشرين الثاني الماضي شركة (syr connect) التي احتكرت شبكة النت الضوئي، بعد أن قامت بعمليات حفر وتوصيل كابلات من تركيا إلى المناطق الحدودية مثل سرمدا وكفرتخاريم. وطلبت حكومة الإنقاذ الذراع المدني للهيئة من المئات من أصحاب شركات الانترنت المحلية الاشتراك في النت الضوئي التابع للشركة، متوعدة بالمساءلة القانونية لمن يمتنع عن العمل معها.

ويتخوف عدد من مشغلي الانترنت في إدلب في حديث لـعين المدينة، من احتمال رفع الأسعار ومراقبة اتصالات السكان ما دام هذا القطاع بيد جهة واحدة تابعة لهيئة تحرير الشام. لكن عدداً من السكان في اتصال مع عين المدينة أيضاً، اعتبروا هذا الإجراء "خطوة في الطريق الصحيح لنشر النظام والقانون بعيداً عن الفوضى السابقة".
 المطاعم.. استثمار جديد

بعد أن تمكنت من ادخار احتياطي نقدي كبير، دخلت هيئة تحرير الشام قطاع المطاعم الذي يشهد حركة استثمارية نشطة في مدينة إدلب وعشرات البلدات والمدن في كل من الريفين الشرقي والشمالي للمحافظة، لأن هذه المناطق بعيدة نسبياً عن العمليات العسكرية للنظام.

ويبدو أن هذا الازدهار دفع مطلع السنة الحالية تنظيم الدولة الإسلامية إلى توجيه ضرباته إلى هذا القطاع، فقام عنصر تابع له بتفجير نفسه في مطعم "فيوجن" وسط مدينة إدلب الذي أسسته الهيئة كجزء من منظومة المطاعم التابعة لها في المحافظة.

وخلال العام الحالي تأسست عدة مطاعم كبيرة في مدينة إدلب تميزت ببذخ غير مسبوق وسط أجواء الحرب القائمة، شملت البناء والديكورات ومعدات العمل. ونقل سكان في المدينة أن أحد هذه المطاعم اشترى ثلاث ماكينات لقلي الدجاج على الطريقة الغربية بلغ سعر إحداها 18 ألف دولار. بينما دفع مطعم آخر مبلغ 70 ألف دولار لكسوة المكان فقط.

ويؤكد أصحاب هذه المطاعم أنهم مستثمرون محليون لا علاقة لهم بأي فصيل، لكن مصادر من داخل الهيئة أكدت لعين المدينة دخول الهيئة كشريك مع معظم أصحاب هذه المطاعم التي تنتشر في مدينة إدلب وسرمدا والدانا وغيرها من المدن.

المعابر.. شريان اقتصادي حيوي

بعد معاركها الدامية مع حركة أحرار الشام في تموز 2017 ونيسان 2018، تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على أكبر معبرين بين إدلب والخارج: معبر باب الهوى الذي يصل بين تركيا وإدلب، ومعبر مورك شمالي حماة الذي يصل بين إدلب ومناطق النظام. وتمكنت الهيئة بعد إدارة هذين المعبرين من الاستحصال على كميات هائلة من الرسوم التي تفرضها على مئات الشاحنات المحملة بالبضائع التي تنتقل يومياً بين إدلب وتركيا من جهة وبين إدلب ومناطق النظام من جهة أخرى.

واكتملت سيطرة الهيئة على المعابر بعد القضاء على حركة نور الدين الزنكي، فأمسكت بمعبري العيس والمنصورة الواقعين بين ريف حلب الجنوبي ومناطق النظام، كما بات معبر دارة عزة الذي يصل بين ريف حلب الغربي وعفرين في قبضة الهيئة. ولم تكتف الهيئة بإدارة المعابر، بل لجأت إلى وضع يدها على التجارة الخارجية، لاسيما عمليات تمرير شاحنات البضائع من تركيا.

يقول أحد التجار لعين المدينة "يصعب جداً استيراد بضائع من تركيا نحو إدلب، مع العلم أن الهيئة لا تحظر ذلك، لكنها بدخولها عمليات الاستيراد بمبالغ ضخمة تحول دون التمكن من منافستها في هذا المجال". ويتساءل هذا التاجر قائلاً "من يتجرأ على شراء كمية من لحم الفروج التركي مثلاً بعشرين ألف دولار، بينما يوجد في السوق من يمرر شاحنات من هذا اللحم بمئات آلاف الدولارات؟!". ويتابع "من يضخ في السوق كميات أكثر يتحكم بالأسعار، وهنا لا مجال لنا نحن التجار الصغار لجني أرباح معقولة ومقبولة".

 وفرت هذه المعابر دخلاً إضافياً للهيئة يضاف لدخل المعابر السابقة. ولا يمكن معرفة حجم هذا الدخل على وجه الدقة بسبب عدم وجود كشوف حسابات علنية تفصح عنها الهيئة في هذا المجال.

تمكنت هيئة تحرير الشام من إقامة منظومة من النشاطات الاقتصادية أتاحت لها جمع رسوم ومكاسب كبيرة تستخدم جزءاً منها في رفد المشافي والمؤسسات الخدمية والمجالس المحلية عبر حكومة الإنقاذ، لكن الأخيرة تفرض ضرائب على العديد من الخدمات مثل النظافة والمتاجر والبسطات التجارية والصيدليات. كما أن السكان مقتنعون بوجود أموال طائلة في خزينة الهيئة لا تنفق على البنى التحتية للمحافظة مثل تزفيت الطرقات التي لا تزال في حالة مزرية، وهو ما يقابل باستياء غير معلن من قبل السكان