لا تجد أم رنيم، وهي الموظفة الحكومية قوية الشخصية، حرجاً في الوقوف أمام بسطةٍ للألبسة المستعملة في شارع الوادي، لانتقاء قميصٍ صيفيٍّ لزوجها الموظف هو الآخر. وبحسب قولها ليست وحدها من يفعل ذلك، فمعظم جاراتها وصديقاتها يفتشن بين حينٍ وآخر في معروضات البالة المتكاثرة في أسواق الجزء المحتلّ من مدينة دير الزور.
براتبها الشهريّ، وراتب زوجها، أسست أم رنيم قبل الثورة عائلةً صغيرةً تنتمي إلى الطبقة الوسطى بمعايير الطبقات في دير الزور. وصاغت لهذه العائلة رؤيةً تقوم على أهدافٍ واضحةٍ في التحصيل الدراسي الجيد للأولاد، وإحراز المكاسب، ودون أيّة مخالفاتٍ للعادة أو للقانون. غير أن هذه الرؤية اضطربت مع اندلاع الثورة ثم الحرب، مما نقل أم رنيم من موقع الهجوم على الحياة إلى موقع الدفاع عنها، وهو سلوكٌ مألوفٌ تسمّيه هذه المرأة العملية بالتكيّف. ورغم بعض المرارة تعدّ أم رنيم نفسها محظوظة، فلم يلحق أيّ أذىً بأحد أفراد أسرتها خلال السنوات الخطيرة الثلاث التي مرّت، وهي تعتبر ذلك إنجازاً في حدّ ذاته.
على البسطة أيضاً وقف طالبٌ جامعيٌّ خجولٌ يبدو أنه يتحدّر من إحدى القرى البعيدة والحيادية عن الصراع، يبحث عن بنطال جينزٍ لم يعثر عليه فاختار آخر من الكتان ما زالت ألوانه وهيئته متماسكة. شعرت أم رنيم للحظاتٍ أن لقيةً ما قد فاتتها، فهذا البنطال على قياس ابنها طالب البكالوريا، ومناسبٌ جداً أن يرتديه في أول أيام الامتحان. لكنها تتراجع بعد أن تحسب درجة عناد ابنها هذا في ارتداء ألبسةٍ مستعملة، فتكتفي بمراقبة التفاوض السريع بين البائع والزبون الشاب، والذي انتهى إلى اتفاق. وتحضّر نفسها لتخفيض ثمن القميص الذي اختارته لزوجها، ويحضّر البائع نفسه كذلك لجولةٍ شاقةٍ من المفاوضات مع زبونةٍ محترفةٍ مثل أم رنيم، التي تبدأ بطرح رقم زهيدٍ يستنكره البائع بقوله: "ترى ما احنا حرامية بيوت، هاي البضاعة دافعين حقها مصاري. وإذا تريدين فوتي بالدربة تلاقين بوقات كثير للبيع". ويضيف ساخراً: "أو أقلكي عليش بالدربة، بأول الشارع تلاقين كلشي حتى هدوم الميتين".
ملابس الموتى
جرت العادة القديمة في دير الزور أن يقوم أهل المتوفى بتوزيــــــع ملابـــــسه صدقةً للمحتاجين. إلا أن هذه العـــــادة اخترقت في مــــــرّاتٍ عدةٍ بحسب حكـــاياتٍ ترـــوى من حيـــــــي الجورة والقـــــــصور المحتــــــــلين، حــــيث يعــــــيش السكان في فضاءٍ محدودٍ وشبه مغلق، تشكل الرواتب الحكومــــــــــية المورد الرئيســــــيّ للأموال المتحرّكة فيه. فبدل أن تجتمع بنات الميت أو الميتة أمام خزانة ملابسه لاستعراضها في جلسةٍ عاطفـــية، تُفرز فيـــها بعنايةٍ كلّ قطعة قمــــاشٍ بدموعٍ وذكريات، ثم تقسم بين ما يحتفظ به الأبناء كتذكارٍ وما يوزّع على شديدي الفقر من المعارف؛ يعرض البعض اليوم ملابس موتاهم للبيع. وبحسب ما يذكر ناشطٌ متخفٍّ ومهتمٌّ بتتبع أحوال الناس "المحتلين" بحسب تعبيره، تحولت السيدة (م) بعد وفاة زوجها الى أرملةٍ منكوبةٍ من عدّة أوجهٍ بما فيها الوجه الماديّ، إذ انقطع المورد الماليّ الذي كان زوجها يحققه بالتجارة البينية للأدوات الكهربائية التي يجلبها من مدينة الميادين المحرّرة ليبيعها هنا. ولم يبق لها من دخلٍ سوى راتب هذا الزوج التقاعديّ من وظيفته الأساسية، فاضطرّت بعد أسبوعين لعرض معاطفه وحذائين شبه جديدين من أحذيته للبيع، ونجحت في ذلك مقابل 10 آلاف ليرة، وهو رقمٌ كبيرٌ في أسعار البالة، لكن الناشط المتخفي يراه منطقياً نظراً للارتفاع الحادّ في أسعار الألبسة الجديدة. ويضيف بأن أيّة قطعة لباسٍ مستعملةٍ يمكن أن تباع بنصف قيمة مثيلتها الجديدة، شرط أن تكون خاليةً من العيوب. فالمعطف المستعمل يباع بثلاثة آلاف ليرةٍ لأن الجديد يباع بستة.
قد يكون الزبون أيّ عابرٍ في السوق، وقد يكون جندياً من جنود الأسد ليس له بابٌ للسرقة والتشبيح؛ ويقول الناشط "فقد رأيت منذ أيامٍ مجنداً علوياً يقف على البالة ويقلّب بدلة سفاري جيدة الحال، واقتربت منه لأسمعه يقول للبائع: "ليك هي لخيي الكبير. والله نازل إجازة هالكم يوم وما حلوة شوفه
ودياتي فاضيَّة".