من إصدارات التنظيم
أيّ حــرجٍ أصاب أبا الطـيّب الأنصاريّ، في ذلك اليوم المشؤوم من عهده الجديد مع "الدولة الإسلامية"، حين كان ينطلق بسيارته على حماسة "دولتنا منصورة" بأعلى درجةٍ من مكبّر الصوت، وفي جيبه كتابٌ رسميٌّ من أمير قاطعه بتسهيل المهمة. فهو واحدٌ من أعضاء مكتب شؤون خدمات المسلمين، بل هو قلب هذا المكتب وطاقته الحركية الأهمّ، مقابل تردّد بقية الأعضاء وانخفاض همّتهم. وكما قال عنه أبو دجانة المصريّ، أمير القاطع، في اجتماعٍ عام: "لو عندنا في الولاية عشرة مثل أخينا أبي الطيب لسبقنا كلّ ولايات الخلافة". يحبّ أبو الطيب كلمة خلافة ومصطلح "الولاء والبراء"، الذي لم يفهمه بدقةٍ لكنه يتحايل في كلّ مرّةٍ ليجد فرصةً مناسبةً لوضعه في سياق جملة. غير أنه لا يبالغ في تكفير الناس كما يفعل غيره من الأنصار، رغم احترامه لمصطلح "الردّة"، وخاصّةً حين يطلقه الأمير على جماعةٍ ما من الجماعات. وبمنظور الردّة تحديداً، ثم العودة عنها، نظر أبو الطيب إلى بيوت القرية التي خفّف السرعة عندها، وشعر برغبةٍ لذيذةٍ ليتحدث مع أحدٍ ما من أهلها حول هذه النقطة بالتحديد. وبالتدقيق في وجوه الجالسين في مجموعاتٍ من سكان القرية أمام بيوتهم عثر على شخصٍ يعرفه. وخلال لحظاتٍ حضرت عناوين رئيسيةٌ للدخول إلى الموضوع الذي يريد: "قبل سيطرة الدولة كنتم مرتدّين، وأنتم اليوم مسلمون في دار إسلام". ربما كانت السعادة التي غمرته وهو يفكر في ذلك هي ما دفعه إلى الخطأ بالضغط على المكابح دفعةً واحدة، لأن سيارةً أخرى خلفه كادت تطير خارج الطريق بعد توقّفه المفاجئ. إنه يومٌ مشؤومٌ بالفعل، فقد كان السائق مهاجراً تونسياً يعتقد أنه من الأمنيين، سمع أبو الطيب عن عصبيته لكنه لم يلتقِ به قبلاً، وها هو الآن يقع ضحيةً لها، بدءاً بالإهانات اللفظية وانتهاءً بعشر جلداتٍ ألهبت ظهره، ولم يخفّف من شدّتها كتاب تسهيل المهمّة من أمير القاطع.
***
في سوق خضارٍ في الرقة، كان إعلاميو "الدولة" يلتقطون صوراً لصناديق التفاح والبرتقال وربطات البصل الأخضر المغسولة والنعناع، ليحمّلوها على شبكة الإنترنت كإنجازٍ من إنجازات الخلافة. لم يحبّذ سكان الرقة، في أيّ يومٍ من الأيام بعد الثورة، التقاط الصور من أيّ نوعٍ ولأية جهة، فهي برأيهم تجلب طائرات بشار لتقصفهم كأهدافٍ لها، والآن تجذب طائرات التحالف لتقصفهم هي الأخرى. لكن، ما باليد حيلة، فهم لا يستطيعون اليوم قول "لا.. لا تصوّر!" كما قالوها سابقاً، وبصوتٍ حاسمٍ، في وجه مصوّري الثورة. وكلّ ما يستطيعون فعله اليوم هو تجنّب النظر إلى العدسة أو الابتسام لها.
***
في الحافلـة الصغــيرة، وفي آخر المسافات من أراضي "الدولة" باتجاه الحدود التركية، كان أبو علي يشعر بالغيظ. لأنه، وبعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينته دير الزور، عجز عن ممارسة صراحته المفرطة. ولم يعد يستطيع، كما في السابق، أن يطبّق مبدأه العنيد بأن يقول "للأعور.. أعور بعينه".