أثناء توزيع وجبة مجانية، دير الزور | عدسة أيهم
يتكرّر هذا المشهد كل يـــومٍ تقريباً، مع فروقاتٍ بسيطةٍ في التوقيت أو المكان أو الأشخاص؛ ففي الساعة الثانية ظهراً، يدلي رضا (هذا ليس اسمه) سطل الطعام الفارغ إلى يمينه، ويسير متجهاً إلى المطبخ الخيريّ الموجود في حيّه. أحياناً، إذا كان يعرف الطبخة سلفاً ولا يميل إليها، يذهب إلى مطبخٍ ثانٍ. يحسّ رضا بخوفٍ من شيءٍ ما، لا يعرف ما هو، على أن خوفه لا يسلبه رباطة جأشه؛ ومع اقترابه من الحشد أمام المطبخ، يزول الخوف تدريجياً لسبب لا يعرفه كذلك. أثناء وقوفه منتظراً دوره اعتاد أن يسمع أناساً - منهم المسلح والأعزل - يحاولون أخذ دور غيرهم، يطلقون عباراتٍ من نوع: "لو ندري ما عملنا الثورة" أو "خلصنا من بشار طلع لنا ألف بشار". وهو يعلم، دون أن يجهر بذلك، أن مطلقي هذه العبارات إما أنهم لا يعنونها، أو أنهم ممن ركب الموجة (لكنه يشعر مع ذلك أنهم على حق!).
وما يؤكّد رأيه بهؤلاء بعض الحوارات الجانبية التي تدور في الحــــشد همســــاً: "هذا الرجـــل الذي يصـــــرخ ويباكــــط...
أتعلم أين يرابط؟على الفرشة في سرداب أهله".
لا يعترض رضا على جودة الطعام، وهو جيدٌ في العادة، لأنه لو لم يكن مضطرّاً لما جاء إلى هنا.. ولكن الأيام....
يأتي دوره ليأخذ حصته، ثم يتجه إلى البيت مع عودة الخوف إليه تدريجياً كلما ابتعد عن الحشد. وفي الحارة يلتقي بابن عمه، وهو عضوٌ في المجلس المحليّ (واسمه غير مهم). وبعد أن يسلما على بعضهما يقول له ابن عمه (والنقل ليس حرفياً): إن المطابخ الخيرية استجابةٌ لحاجةٍ اقتصادية، إذ إن الناس فقدت سبل عيشها (لا يحب طريقة ابن عمه هذه في الكلام). وقد أصبحت الآن حاجةً ملحةً بعد عودة الحصار الذي يخنق المدينة؛ لكن ألا تعتقد أن على الناس أن توصل رسالةً إلى المنظمات والجمعيات الإنسانية أنه (ليس بالمطابخ وحدها تخدم الناس)؟ فهناك مجالاتٌ أخرى كثيرةٌ لا تقل جدوى عن المطابخ، كالمياه. ففي المدينة أحياءٌ لا تصل إليها المياه بسبب تلف الشبكات. والمجلس لا يستطيع تحمل كافة تكاليف الإصلاح أو التمديد الجديد (وهنا فهم قصده). والناس في هذه الأحياء تطالبنا بمضخاتٍ لإيصال المياه. وهذه فرصةٌ للمنظمات لتنويع عملها، وإثبات جدارتها؛ فلو أن كلّ منظمةٍ استجابت لبعض طلبات الحيّ الذي تعمل فيه، لخففت عبئاً لا يستطيع المجلس تحمّله لوحده، وحققت تفاعلاً أكبر مع الناس. (هنا تأكد رضا أن ابن عمه يريد أن يُفهمه أن المجلس لن يركّب لهم مضخة) لكنه أحسّ أنه على حق! في أثناء ذلك يقترب منهما جاره وابتسامته المحبّبة على وجهه (واسمه سقط عمداً). يبادره رضا: عجبك أستاذ؟ ابن عمنا المسؤول قال إنو المجلس ما راح يركّب لنا مضخة للحارة، وقال لازم المنظمات تركّبها؟ هنا يشعر الجار أن كاميرا مخفية - ربما كاميرا التاريخ - تصوّر هذا المشهد، فيحاول أن يجعل كلامه متسقاً، وملماً بكل أطراف الموضوع، فيقول: في مدينةٍ متوسطةٍ كدير الزور، يشكل العيب دستوراً عرفياً غير مكتوب، لم يفكر الأهالي بتجاوزه، رغم ما فيه من تعسفٍ وإجحاف. وقد وقف في بداية الثورة بين الناس من جهةٍ وبين الناشطين من جهةٍ أخرى، ولكنه ما برح أن سقط. والمطابخ عاملٌ مساعدٌ في تنشيط التفاعل بين الأهالي والمنظمات، وتؤمّن فرص عملٍ لا بأس بها، وبالأخص للنساء. ولكن يجب أن لا يقنع الناشطون بهذا الحدّ، بل يجب تطويره وتخطيه، لخلق المبادرة الشعبية. يقول المثل أن أعلّمكَ الصيد خيرٌ من أصيد لك سمكةً كلّ يوم. ومن هذا المثل يجب أن تستوحي المنظمات مشاريع تنموية، تؤمّن بها فرص عملٍ لأكبر عددٍ ممكن؛ على سبيل المثال مشروع صناعة ربّ البندورة مشروعٌ بسيطٌ ولا يحتاج إلى خبرات. ثم إنه يؤمّن فرص عملٍ جيدةٍ من جهة، ويسدّ احتياجات المطابخ من جهةٍ أخرى. (دائما يحسّ رضا أن جاره على حق) ولكن أين المضخات؟!