الدم في براد المرطبات
قبل الثورة، كان التبرّع بالدم اسماً على غير مسمّى. إذ إن المعاني التي تحملها عبارة التبرّع بالدم، من تطوّعٍ ومبادرةٍ وإغاثةٍ وغيرها، كانت معدومةً تقريباً. لأن بنك الدم كان يستقبل في السابق المانحين الذين يضطرّهم روتين الدولة إلى التبرّع لاستكمال بعض المعاملات الرسمية (كاستصدار إجازة السوق)، أو يستقبل المانحين الذين يتبرّعون لأمورٍ تتعلق بالمحافظة على الصحّة والحيوية، بالتخلص من كميات الدم الزائدة التي قد تسبّب بعض المشاكل الصحية. ولذلك كان يصعب إطلاق وصف التبرّع على ذلك العمل الذي يأخذ شكل الاضطرار أو الرفاهية.
لم يفكر بسام، وهو حدّادٌ ابن مصلحة، في هذه الأمور عندما سمع نداء مكبّرات الصوت في الجوامع عن حاجة المستشفى إلى الدم. لكنه راح يناقشها في نفسه عندما وقف في طابور يتجاوز العشرة أشخاصٍ، ينتظرون دورهم أمام غرفة بنك الدم في المستشفى الميدانيّ في مدينة دير الزور المحاصرة. تذكر بسام أن بنك الدم كان يبيع الدم لمحتاجيه، وقد يكون سمّي بنكاً لذلك. ولهذا السبب رأى أنه ليس صحيحاً أن يسمّى بنكاً هذا المكان الخاصّ بالتبرع بالدم وحفظه في المستشفى الميدانيّ. ولكن بسام لم يجد اسماً مناسباً، لا هو ولا أيّ واحدٍ من أصدقائه حين طرح عليهم الموضوع فيما بعد. كما فكر، وهو يقف في الطابور، بمدى التناقض بين اسم التبرّع بالدم والبنك.
عندما اقترب بسام من غرفة نقل الدم أصبحت موجوداتها واضحةً أمامه، فراح يتابع باهتمامٍ إصرار شابٍّ على إتمام التبرع بعد أن أغمي عليه عندما رأى دمه يتدفق في الأنبوب. كما رأى شاباً يمازح صديقه وهو يفتح أصابعه ويضمّها. لكن أكثر ما لفت انتباهه هو برّاد سينالكو يحوي أكياس الدم! لماذا برّاد سينالكو وليس برّاد دم؟ ألا يوجد برّادٌ خاصٌّ في دير الزور؟ هل يصلح برّاد سينالكو لحفظ الدم؟ في طريق خروجه التقى بسام صديقه أبو صهيب، فني الأشعة في المستشفى، فسأله عن البرّاد. أخبره أبو صهيب أن البرّاد الموجود هو المتوفر إلى الآن، وأنه يصلح نوعاً ما لحفظ الدم. أما لماذا لم يشتروا برّاداً خاصّاً فقد رفض أبو صهيب الكلام في هذا الموضوع، لأنه يخلق الكثير من المشاكل، ويثير الإشاعات والقيل والقال. لكن أحد الممرّضين من معارف المعارف أخبر بسام، بعد فترةٍ من ذلك، أنه قد أرسل إلى دير الزور مبلغ خمسة آلاف دولارٍ لشراء تجهيزاتٍ طبيةٍ لفحص الدم وحفظه. وقد قال له، بشيءٍ من الحسرة والتسليم: بحسب اطلاعي، هذا المبلغ لا يكفي لشراء جميع التجهيزات، ولكنه يكفي لشراء بعضها، ومنها البرّاد. لكن المبلغ أوقع أعضاء المكتب الطبيّ الموحد في حيرةٍ كبيرة، إذ إنهم يخشون أن يجلبوا التجهيزات من تركيا، خوفاً من تعرّضها شبه المحتم للسرقة في الطريق، كما أنهم يخشون أن يشتروها عن طريق الوسطاء في الداخل، خوفاً من التلاعب بالمواصفات. بعد أن اطّلع بسام على هذه التفاصيل أحسّ بالكثير من الأسى لما وصل إليه التردّي الأخلاقيّ، ليطال حتى أكثر الأمور إنسانيةً، وينسف خندقاً خلفياً من خنادق الدفاع الشعبيّ. كما أنه فكر كثيراً في شيءٍ يستطيع تقديمه كي لا يُغرق الطوفان بعض الحصون التي عمّرتها الثورة (من تضامنٍ وتضحيةٍ ونجدة) فلم يجد أمامه إلا الدعاء، سلاحه الأخير قبل الاستسلام.