يزعم أبو أمجد، وهو موظفٌ حكوميٌّ قارب الستين من العمر، أن النظام قطع راتبه. ويأسف في نفسه على ضياع الإكراميات التي كانت تؤمّن له دخلاً إضافياً.
عندما يجـــتمع بأصـــــدقائه في «التجمّع»، وهم شلة المقهى سابقاً، وزملاء الوظيفة سابقاً (ومنهم المفصول بسبب فسادٍ ماليّ)، يستعدّ الجيران لموجةٍ من الضحك، وقد يضطرّون إلى التدخل لفك الاشتباك بين شلة الختايرة التي يستحيل أن يتنازل أحد أعضائها عن رأيه مهما كلف الأمر. ولكن هذا ليس كل شيء، فهناك الكثير من المؤامرات التي تحاك في تلك الغرفة، ولكن بصوتٍ لا يكاد يسمع.
في طريقه إلى لقاء «الشلة»، يقوم أبو زاهر بالكثير؛ فينصح هذا الإعلاميّ، أو يقدّم خطةً عسكريةً لذاك المقاتل، وقد يساعد في إطفاء حريقٍ أو إسعاف جريح. وعندما يصل إلى بيت أبي أمجد تلفّه غيمة دخان السجائر، بعد أن تكون قد لفّته أصوات أصدقائه العالية وقد بدأوا. يأتي صوت أبي أمجد أعلى من بقية الأصوات لأنه المضيف، ويبدأ عادةً على هذا النحو: «والله نحن دراويش؛ نفكر حالنا نعمل شي، بس الواقع أنه كل الثورات والأنظمة فاشلة. يا أخي كل هذا مؤامرة من قبل الماسونية العالمية، مخطّطة من زمان». وهنا يكون صوته هادئاً ولكنه يحمل الكثير من الازدراء. «يا أبو محمد قلنا لك هذا كلام جهال، تـــرا المســـألة مسألة صراع طبقــــــات»، يـــــردّ أبـــو زاهـــــر محـاولاً تلافي النقاش القديم الجديد. فيتدخل عندها أبو سلام ليحرف مسار الحديث: «يا أخي هذا صراع أطباق بين الزعتر والكباب. صحي شقد حق كيلو الكباب بالميادين؟»، موجهاً السؤال لأبي زاهر الذي ذهب مشوار طريقٍ إلى حطلة ليوصل «الأمانة». يعود أبو أمجد لتوجيه الحديث، مصرّاً على مفاجأة الشلة: «إقرا، اطّلع، شوف التاريخ: تفهم أنه المعمعة الحاصلة تتكرّر كل عشرين سنة؛ بالأربعينات قبل الجلاء قسّموا الناس بين الأحزاب بدهم ينسّونهم الاستقلال، وبالستينات نفس الشي فوّتونا بمعمعة وتنازلنا عن فلسطين، وبالثمانينات تنازلنا عن الجولان ولبنان. وحالياً ما أعرف غرضهم، بس أكيد بي غاية تبيّن بعد فترة». يتدخل أبو شاكر بنبرةٍ هادئة، وهو أصغرهم سناً وقد تجاوز الخمسين: «يا أبو أمجد من الثمانينات لعند قيام الثورة ثلاثين سنة مو عشرين! بعدين النظام هو يدّعي إن الماسونية ورا الثورة. على هذا الحساب أنت تحليلك نفس تحليل النظام».
هنا يصل صوت أبي أمجد أقصى حدوده، وقد يلجأ إلى الوقوف مع حركاتٍ إيمائيةٍ استفزازية: «خليهم يضحكون علينا الأجانب بالثقافة وهذا العلاك المصدّي وهم ياخذون منا النفط... دود الخل منو وبي... الائتلاف يضحك علينا، وحكومة أحمد طعمة تضحك علينا، والمجلس يضحك علينا، والهيئة تضحك علينا». ثم تتداخل الأصوات وتعلو، مع الكثير من الشتائم والكلام البذيء. وفي أوج النقاش يهمس أبو شاكر: «سمعت اليوم أن حاجز الهيئة مسك سيارة خبز، مظبوط هذا الكلام؟». تنقطع الأصوات فجأةً ليتحوّل الكلام إلى الهمس، في مؤامرةٍ تحيكها الشلة وهي تظنّ أن الجيران حين لا يسمعون كلامهم لن يعرفوا بموضوع بيع الخبز المجانيّ خارج المدينة. يتفقون، بعد نقاشٍ عقلانيٍّ هادئ، (بالقلم والمسطرة)، أن يتأنوا قليلاً في إخراج الكمية (الفائضة كما يسمّونها) التي جمعوها من الخبز، ريثما ينسى الناس سيارة الخبز المصادرة؛ «يا أخي والله صرفنا ثمنها على أشياء أكثر فائدة للناس. وغير هذا الشي بيع الـــــخبز مو ممنوع. الناس خــــــــارج المدينـــــة ما يوصلها الخبز»، على أن يستمر بيع المواد (الفائضــــــة) من المعونـــــات. وحين ينتهــــــون من مؤامرتهم يعودون إلى تحليل المؤامرة التي نكتوي بنارها، فيقول أبو أمجد، كأن الذين يوجه إليهم كلامه لا يـــــــــعرفـــونه البتة: «مؤامرة والله مؤامرة»... «وين الشاي يا أم أمجد؟».