عودة سياسة الخوف في أميركا اللاتينية .. لنُغنّ «لا الرصاص يُخيفنا، ولا تُرعبنا كلاب الصيد النبّاحة»

رسم للمغنية فيوليتا بارا

رينالدو سبيتاليتا
18  نيسان عن جريدة EL ESPECTADOR الكولومبية
ترجمة مأمون حلبي

بينما كان يعمل في مجلة "كرايسيس" في بوينس آيرس في سبعينيات القرن الماضي، تلقّى الكاتب إيدواردو غاليانو اتصالاً هاتفياً من شخص ما ينتمي لمنظمة تُدعى "التحالف المعادي للشيوعية"، وهي عصابة مسلحة غير شرعية. قال المتصل للكاتب: "سنقتلكم جميعاً يا أبناء العاهرات. فردّ عليه إيدواردو بكل هدوء: "نستقبل التهديدات يا سيدي من الساعة السادسة حتى الثامنة"، ثم أغلق الخط.

الخوف والتهديدات في أميركا اللاتينية هما جزءٌ من تاريخها، وأداة للسلطة تستخدمها كل الأطراف لكبح الاعتراضات، فعن طريق سلاح الخوف تمّت سرقة أراضي الناس، وتمّ الدّوس على حقوق الإنسان وتحقير المبادئ الأساسية للديمقراطية والسخرية منها. "أطلِق ساقيك للريح، وإلا سيقتلونك". هكذا تقول كلمات الأغنية للمطرب الشعبي التشيلي فيكتور جارا، الذي قتل هو نفسه عام 1973 بعد أن تمّ قطع أصابعه. لقد ترعرعنا وكبرنا في كولومبيا وأشكال الخوف تُحيط بنا، بما فيها الخوف من التغيير والاختلاف، والخوف من أي شيء غير مكتوب في منظومة المعايير الموجودة.

هذا هو المناخ الذي صعدت في سياقه العصابات المتنوعة لقتلة سياسيين على مدار فترة القرن العشرين العاصفة والمضطربة من حياة البلاد، مع بروز أسماء مُنذرة بالشرّ والفجيعة كمنظمة "قاطعو الرؤوس"، وظهور ممارسات مرعبة وطرق غريبة لتقطيع الناس إلى نتف. هؤلاء الوحوش رسّخوا حكم الخوف، بل وامتدحوه ليشجعوا أنفسهم أثناء فلتانهم الجماعي الهمجي وشقّ طريقهم عبر المناطق والأحياء بذبح من يعترض سبيلهم.

جعْل الرعب وإطلاق التهديدات أمراً طبيعياً، وإدخالهما لمنظومة الثقافة المجتمعية قد خلق عمليات تهجير قسري وحالات اختفاء، وهذا ما أضعف إرادة الاحتجاج وممارسة المقاومة المدنية. كانوا يُحذّرون الناس: "أي شخص يتصرف مثل نعجة سوداء محلية عليه أن ينتظر أن ينتهي في المسلخ".

في مكان آخر، يُذكرنا بابلو نيرودا، الشاعر التشيلي، بحضور الخوف في ديوانه" النشيد الشامل": طَرقٌ قويٌ على الباب الهادئ/ الهاوية أو الوميض الذي ابتلع القاتل/ عندما تنبح الكلاب ويصل رجال الشرطة القساة بين أُناس نيام/ ليضفروا بشكل شرس خيوط الدموع/ وينتزعوها من الرموش المذعورة".

لقد حَلَّ الخوف والتهديدات -المبطنة في بعض الأحيان، لكن المباشرة في الغالب ودون رتوش- مكان المحاججة السياسية، وهذا يُمثل إحدى مكائد القمع التي يستخدمها الجلادون ليمنعوا الاعتراض على شيوع الفظاعات. إن ثني الناس عن الشّجب أو صياغة الانتقادات يتحوّل إلى استراتيجية، وتلك هي الطريقة التي يفرض فيها "الخوف من الخسران" نفسه. فالأفضل، حسب اعتقاد الناس، أن يبقى المرء هادئاً في الوقت الذي يُداس عليه.

في بيئة يسودها الاضطهاد، لم يَعُد الواقع مقولة موضوعية، وتحتوي الذاتية السائدة على المكونات التي تدفع للاستنتاج أنه من الأفضل ترك الأمور كما هي، من أجل تجنب الخطر أو ما هو أسوأ. وفي وقتنا هذا، أصبحت وسائل الإعلام إجمالاً، مع اكتسابها زخماً كبيراً بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، أداة ُتوسّع نشر وتعميم هكذا مخاوف.

إن ثقافتنا الحالية، ثقافة الخوف، معتادة أيضاً على استخدام سيكولوجيا الذَنْب: إن قتلوا ذاك الشخص أو طردوه من العمل أو سخروا منه "فلا بَدَّ أنه يدين لهم بشيء ما". هنا، يُصبح الضحايا كائنات فاسدة، وتصبح الجريمة والظلم والأساليب القمعية من طبيعة الأمور. ويبدو أن إعادة تجسيد المكارثية تُفلح في كل مكان تتراجع فيه الثقافة السياسية ويكثر الخوف.

لقد قالوا إن كان الكفاح من أجل الحرية يرتب مخاطر كبيرة على المناضلين، فإن الظلم يحتاج لزرع الخوف من الموت الجسدي أو التهديد بالعنف. "إن كنت مصراً على رسم لوحاتٍ كاريكاتيرية تسخر من نظام ما أو من قادته فسنقتلك. إن واصلت الغناء ضد الجلادين فسنقطع رأسك". الخوف من الموت يُزود الطغاة بوسيلة لِكَمّ الأفواه تتجاوز الوسائل المادية.

لنطلق عليها وصف مُخيلة الرعب، المخيلة التي تشتمل على الخوف من عدم الامتثال والتفريق بين الأمور، والخوف من التفرّد. من أجل هذا، علينا أن نُغنّي جنباً إلى جنب مع فيوليتا بارا، المغنية التشيلية الراحلة عام 1976: "لا الرصاص يُخيفنا، ولا تُرعبنا كلاب الصيد النباحة".