سعد بن أبي وقاص جامعٌ صدّر عشرات الثوّار إلى جميع أحياء وشوارع حلب، فلم تكد تخلو مظاهرةٌ أو نشاطٌ احتجاجيٌّ إلا وكان لـ «روّاد سعد» قصب السّبق فيه.
حديثنا في هذا العدد عن أحد مساجد حلب، ليس «آمنة بنت وهب» الذي عرفه القاصي والدّاني بتدنيس الشبّيحة حرمته غير مرّة، ولا «أويس القرني» الذي شهد أعتى المظاهرات وأكثرها قمعاً، كذلك لن نحكي عن جامع الإذاعة ومظاهرته الشهيرة، ولا عن الجامع الأموي الذي لا تزال هتافات متظاهريه يتردد صداها في حلب القديمة. حديثنا اليوم عن جامعٍ لم يشتهر كثيراً، رغم أنه شكّل بطلابه وروّاده السواد الأعظم لأوائل المتظاهرين في أحياء حلب الشرقية.
يقع جامع سعد وسط حيّ صلاح الدين، على مقربةٍ من دوّاره المعروف. اشتهر بدروس وحلق تحفيظ القرآن، مستقطباً طلاباً من كافة أنحاء المدينة والريف أيضاً. خرّج الجامع، خلال الأشهر الأولى من اندلاع الثورة فقط، أكثر من خمسين حافظاً، ليصل مجمل عدد حفاظ القرآن الذين تخرّجوا فيه إلى أكثر من ثلاثمئة، فيما بلغ عدد طلابه قرابة سبعمئة.
مع انطلاق الحراك الشعبيّ بدأ طلاب الجامع بأخذ مواقعهم في الثورة. وقدّر عددهم حينها بأكثر من مئتي طالب، تتراوح أعمارهم بين 15-35 عاماً. ولم يخالفهم في موقفهم ذاك إلا عددٌ قليلٌ رأى في التظاهر ذريعةً للقتل وللجرائم التي لن يتوانى النظام عن ارتكابها بحقّ المعارضين، إلا أن ذلك لم يؤثر على قرار النسبة الأكبر.
ولعلّ الجانب الأبرز الذي ميّز الجامع عن غيره أنه لم يكن نقطة تجمعٍ للمتظاهرين، بل بؤرةً صدّرت الثوّار بمختلف أنشطتهم؛ إذ شكّلت الفئة العمرية الشابة في الجامع، من جامعيّين بكافة الاختصاصات، كالشريعة والكيمياء والطبّ والهندسة وغيرها، روافد خصبةً لتلبية الاحتياجات المتنوعة التي تطلّبها الواقع الثوريّ.
نقطة الانطلاق
كانت نقطة الانطلاق من المظاهرات السلمية، عندما التحق روّاد المسجد بتنسيقية مشاعل الحرية، التي أُسِّسَت عام 2011 بمشاركة عدّة طلابٍ من الجامع، واشتهرت في ما بعد كإحدى أبرز تنسيقيّات المرحلة السلميّة التي عرفتها مدينة حلب. ولم تقتصر المظاهرات آنذاك على الجامعة والجوامع أو الأحياء فقط، بل تعدّتها إلى المدارس الإعدادية والثانوية. ومن مدرسة بسام العمر بحيّ سيف الدّولة، التي درَس فيها عددٌ من «طلاب سعد»، خرجت عدّة مظاهراتٍ مطالبةً بالحرية.
ومع الاجتياح الأول لمدينة حمص بدأت حلب تستقبل موجةً كبيرةً من النازحين، فهبّ عددٌ من «ناشطي سعد الجامعيين» إلى تشكيل «مجموعةٍ إغاثيةٍ» ضمّت عدداً من الفتيات كانت مهمتها استقبال نازحي حمص وتوفير سكنٍ وعملٍ وبعض المساعدات لهم.
ومع التحول الذي شهدته مدينة حلب باندلاع العمل العسكريّ داخلها، قام عددٌ من مدرّسي الجامع بتأسيس كتيبةٍ باسم الشيخ «عبد الفتاح أبو غدة» وقيادتها بشكلٍ مباشر، وتعدّ من أفضل الكتائب سمعةً في المدينة.
وكذلك في الجانب الطبيّ والتعليميّ والمدنيّ وحتى السّياسي، ولعلّ المقام لا يتّسع لذكرها جميعاً؛ بل يكفينا القول إن للجامع فضلاً كبيراً على حلب وثورتها.
الجامع الجامعة!
يقول أحمد سرحيل، وهو أحد من حفظوا كتاب الله في الجامع: «إنّ أبرز ما تميز به أنّه لم يكن مجرّد حلقةٍ لتعليم القرآن فحسب، وإنما كان مدرسةً وجامعة، تعلّم القرآن والحديث والأخلاق وأصول التعامل. جسّدت لنا هذه المدرسة كل نواحي الحياة العملية، بعيداً عن تعقيدات الدّروس النظرية وتفاصيلها المملّة. تعلّمنا الكثير من مشايخنا الذين حرصوا على التربية داخل الجامع وخارجه؛ تعلّمنا الأدب والانضباط في الرحلات والنشاطات مع المدرّسين، وتعلمنا التنافس وأدب الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية خلال مبارياتٍ كرويةٍ خضناها مراراً مع معلمينا، وغيرها الكثير من الأمثلة التي لا مجال لذكرها... تعلّمنا كذلك أنّ صاحب المشروع والأهداف السّامية لا يسعى إلى أن يكون وحدَه رُبّان المركب، وإنما يكفيه أن يجهّزه ويصنع قائداً له ثم يدفع به نحو الأمام، ليلتفت مجدداً ويصنع واحداً آخر».
أهل الله وخاصّته!
يقول الشيخ معاذ أبو صالح، وهو أحد مدرّسي الجامع المشهورين: «(أهل القرآن أهل الله وخاصّته) كما في الحديث النبويّ، وذلك ما يفسّر عدم انحراف طلاب (سعد بن أبي وقاص) أو انجرارهم نحو التنظيمات التي تتبنى أفكاراً متطرّفةً بعيدةً عن الإسلام، وتحمل منهجاً غريباً عن السوريين وعاداتهم».
نعم... إنهم أهل قرآنٍ فهموه قبل أن يحفظوه؛ وتخلقوا به بحالهم لا بقالهم؛ فلا تربية بدون مربٍّ، ولا علم بلا معلّم، وشتان شتان بين من كان شيخه كتابه وبين من كان شيخه عالماً معروف السيرة، معلوم الاسم، مشهور الحسب والنسب!