إدلب.. هوامش الجحيم.. عشرات حالات الاكتئاب والقلق تتكدس دون علاج

عندما لجأت المريضة الشابة ليلى (20 عاماً) إلى الطبيبة بيان الكردي المتخصصة بأمراض القلب، لم تجد الطبيبة ما تقوله لها سوى إيجاد أي عمل لتعبئة وقتها، فقد تبين لها أنها لا تشكو من أمراض جسدية بل هي الحرب التي ألقت بثقلها عليها وجعلتها تعاني من القلق والوساوس والأرق، ما جعلها شبه عاجزة عن القيام بأعمال منزلها ورعاية طفلتها الصغيرة.

في عيادتها لمعالجة أمراض القلب بمدينة إدلب أجرت الطبيبة فحوصات شاملة لمريضتها ليلى التي تبين أنها تعاني من ارتفاع في الضغط وتسارع في نبضات القلب نتيجة القلق النفسي المصاحب لغالبية سكان إدلب، خاصة بعد التطورات العسكرية الأخيرة في هذه المنطقة. وتؤكد الطبيبة كردي أنها تستقبل شهرياً حالات عديدة مشابهة لحالة ليلى في عيادتها، والسبب واحد: الخوف والتوتر نتيجة أجواء الحرب المخيمة على إدلب شمال غرب سوريا.

ولا تكف ليلى عن التفكير في الموت والقلق من إصابتها بالعديد من الأمراض الخطيرة التي تتوهم بأنها على وشك الإصابة بها. كل هذا كان يؤدي إلى تسارع وتيرة ضربات القلب وارتفاع في ضغط الدم، حتى أن فحص الضغط والقلب باتا بالنسبة إليها عادة يومية.

رحلة البحث عن علاج جذري لحالتها المستعصية قادتها إلى طبيب مختص في الجراحة العصبية هو الدكتور حسين ياسين. أجرى ياسين فحصاً شاملاً لليلى، وتبين له أنها بحاحة لعلاج نفسي بعيداً عن الجراحة العصبية، فزودها بدواء مهدئ ناصحاً بالبحث عن طبيب مختص بالأمراض النفسية.

وخلال حديث عفوي مع صديقة لها علمت ليلى بوجود عيادة تعالج الأمراض النفسية في مدينة إدلب. زارت المكان وعندها بدأت الأمور تتوضح أكثر، فقد شخص الطبيب محمد العلي -الذي يداوم في العيادة النفسية المتنقلة في مستوصف الجامعة كل أربعاء- وجود مرض نفسي لدى ليلى يختصر بكلمة "القلق". كان التشخيص والعلاج مجديين لدرجة مكنت ليلى من السيطرة على الوساوس التي كانت تنتابها، حسب ما أوضحت في حديثها مع عين المدينة.

 حالات أخرى لم تعالج

"على الرغم من اعتباره أحد الأمراض النفسية الأكثر شيوعاً، لا يعتبر القلق المرض النفسي الوحيد الذي ينتشر في إدلب، فهناك أمراض نفسية وعقلية أخرى منتشرة أهمها اضطراب القلب المعمم والرهابات واضطراب الكرب ما بعد الصدمة واضطراب الكرب الحاد، إضافة لاضطراب التأقلم تليها أمراض أخرى مثل الاكتئاب والذهان"، كما يقول الدكتور محمد ساطو مدير "وحدة الأمراض النفسية والعقلية" التي هي عبارة عن مركز علاج نفسي متخصص افتتح بإشراف اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية (UOSSM) في مدينة سرمدا الحدودية ليكون المركز الأول والوحيد الذي يمنح خدمات دعم نفسي في منطقة تسودها الحروب والأزمات.

قد يكون الحظ حالف ليلى في الحصول على علاج مناسب، لكن هنالك العشرات من المصابين بأمراض نفسية أو عقلية حالاتهم أشد سوءاً من ليلى، لكنهم لا يستفيدون من أي علاج متخصص.

منذ سنتين بدأت علامات تشبه الجنون تظهر على أبو محمد (55 عاماً) الذي يعيش في ريف إدلب الشرقي، ويصاب بحالة ذعر شديد كلما سمع هدير طائرة حربية تحلق في أجواء المنطقة تمهيداً لإلقاء قنابلها على رؤوس المدنيين.

يقول عماد أحد أقارب الكهل لعين المدينة "إن أبو محمد يتبدل خلال لحظات من إنسان عاقل إلى شخص غير طبيعي يتحدث عن أشياء غريبة جرت معه في الماضي، كما يسب ويشتم ويبدو أكثر عصبية لاسيما إذا انقطع من لفافات التبغ التي يدمن عليها بشراهة لا توصف". أحد الصيادلة أعطى أبو محمد بعض الأدوية التي تستخدم لعلاج الأمراض العقلية، فتحسنت حالته قليلاً لبعض الوقت قبل أن يعود سريعاً إلى حالته السابقة.

 عيادات متنقلة للعلاج

يقول الدكتور محمد ساطو أن "نسبة شيوع الاضطرابات النفسية والعقلية في الشمال المحرر ازدادت بين 2 إلى 4 بالمائة عن النسبة المعتادة"، وهو يسعى مع زملائه في وحدة الأمراض النفسية والعقلية في سرمدا إلى تقديم الخدمة الطبية التخصصية من الناحية النفسية والعقلية. ويضم مشروعهم عيادة خارجية تخصصية ووحدة استشفاء للمرضى الداخليين، إضافة إلى أربع عيادات متنقلة نفسية تغطي معظم المناطق المحررة.

يقول ساطو إن العيادة الخارجية في الوحدة التي يديرها "تقدم المشورة الطبية المختصة لجميع المراجعين مع العلاج الدوائي المتوفر بشكل مجاني، وفي حال وجود حالات حرجة تقوم العيادة بإحالتها لوحدة سرمدا الداخلية".

وتضم وحدة سرمدا المخصصة للمرضى فوق عمر الــ18، جناحا خاصاً بالذكور وآخر بالإناث. تستوعب الوحدة 20 سريراً، ومدة الاستشفاء لا تتجاوز أربعة أسابيع كحد أقصى. وتستقبل المرضى الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية حادة مثل (اضطراب ثنائي القطب - نوبة ذهانية حادة - اكتئاب شديد مع خطورة انتحارية - اضطراب سلوكي شديد مرتبط بمشاكل الصحة النفسية).

ولإيصال المشورة المتخصصة بالصحة النفسية، استحدثت الوحدة ما يسمى بالعيادات المتنقلة التي تتوزع في مدن وبلدات محافظة إدلب، وتقوم بتقديم الدعم النفسي والتوعية في مجال الصحة النفسية والمخاوف المتعلقة بالحماية.

على الرغم من الجهود التي يبذلها كل من الطبيبين محمد العلي ومحمد ساطو مع عدد آخر من الأطباء، تبقى أمراض مثل القلق والرهاب والاكتئاب حاضرة بكثرة في إدلب، ما دامت الحرب قائمة وما دام النظام يواصل هجماته العشوائية على منطقة إدلب حاصداً الموت في صفوف المدنيين.

 شريط ليلي من الألم

وإذا كان القصف المروع على المدنيين يعتبر سبباً أساسياً للمشاكل النفسية التي يعاني منها سكان منطقة إدلب، فإن المعاناة تصبح أضعافاً مضاعفة إذا كان ساكن هذه المنطقة من الخارجين أحياء من سجون نظام الأسد.

تحاول رجاء (40 عاماً) تناسي معاناتها القائمة منذ ثلاث سنوات عندما خرجت من أحد سجون النظام في دمشق، بعد أن أمضت فيه قرابة سنة ونصف سنة. لكن شريط الاعتقال وما يتضمنه من أهوال يمر في ذاكرتها كل ليلة مانعاً عنها النوم لساعات طويلة، كما تقول لعين المدينة.

وأجبر القصف رجاء على تبديل مكان إقامتها مرات عدة في إدلب بعد أن خرجت بصفقة تبادل جرت بين المعارضة والنظام شمالي سوريا. تقول عن فترة المعتقل وهي تفرك يديها بتوتر واضح: "كان هناك تعذيب وإرهاق وأشياء أخرى لا أرغب بالتحدث عنها، تشعرني بالتوتر والقلق وتتسبب لي بألم حاد في الرأس وتدفعني إلى الاكتئاب". وبما أن رجاء لم تزر أي طبيب نفسي مختص بحالتها، فقد نصحها أحد المقربين منها بزيارة عاجلة لإحدى العيادات المتنقلة التي تشرف عليها وحدة الأمراض النفسية.

 طريق خاطئ

بسبب الجهل وانتشار الشعوذة والمتعاملين بالسحر يلجأ البعض ممن يعانون من أمراض نفسية كالقلق والاكتئاب وفصام الشخصية إلى المشعوذين ظناً منهم أن المرض يتعلق بمس من الجن.

 وقد عانت ندى الثلاثينية طويلاً من وساوس قهرية تتعلق بالمرض والموت، وبات يرافقها بشكل شبه دائم هاجس الخوف من الموت في أي لحظة نتيجة القصف أو مرض عضال. وبدلاً من أن تقوم بزيارة طبيب مختص لتشخيص حالتها المتفاقمة ووصف الأدوية المناسبة لها، ذهبت إلى إحدى العرافات أو الساحرات.

تروي ندى لعين المدينة كيف دفعتها عرافة مشعوذة إلى التقيد بتعليماتها، فاشترت مواد باهظة الثمن مثل المسك الأسود، وواظبت على الاغتسال بالماء المملح والقيام أحياناً بأفعال غير مفهومة مثل رش الماء أمام باب منزلها أو ذبح ديك أحمر اللون، وتقول إنه تهيأ لها أنها شعرت ببعض التحسن لأسابيع قليلة لكن وضعها سرعان ما تفاقم.

وتختم ندى بالقول لعين المدينة "أدركت بالنهاية أنني سلكت طريقاً خاطئاً، وأن علي تقبل إصابتي بمرض نفسي والتوجه الى أي طبيب مختص لمعالجة حالتي".

 تلاعب

قد يشعر أي شخص يعيش في منطقة موبوءة بالحرب وانعكاساتها السلبية ببعض التوتر والقلق، لكن هذا الشعور لا يصل إلى مرتبة المرض النفسي. وقد خضعت بعض الحالات التي اطلعت عليها عين المدينة للتلاعب بسبب عدم العثور على طبيب مختص بالحالة النفسية. فقد قاد الحظ العاثر العشرينية منى للمعالجة عند طبيبة قلبية ساهمت في تفاقم حالتها النفسية بعد إعطائها معلومات مزيفة حول تخطيط قلبها ودرجة الضغط الدموي وسرعة دقات القلب.

في البداية كانت منى تعاني من حالات ذعر تترافق مع تعرض المنطقة التي تعيش فيها للقصف، فتشعر بتسارع دقات قلبها. وعندما زارت طبيبة القلب هذه أجرت لها تخطيط قلب وقاست ضغط دمها وقالت لها أن حالتها غير مستقرة وهي بحاجة لعلاج متواصل.

لكن سرعان ما تبين لمنى أنها وقعت ضحية تلاعب من الطبيبة لمواصلة زيارتها، وتأكدت من ذلك بعد أن عرضت نتائج فحوصاتها على طبيب مختص طمأنها إلى أنها طبيعية عكس ما قالت لها الطبيبة التق زارتها سابقاً، وأن كل ما تعاني منه ليس أكثر من بعض التوتر الذي قد يذهب بعد تناول حبوب مهدئة من العيار الخفيف