«افتحلك صيدلية»، بهذا القدر من الاستخفاف بحياة الناس يتحول العمل في هذه المهنة الحساسة، التي قد يؤدي الخطأ فيها إلى الموت أو إلى تشوهات الأجنة أو إلى مضاعفات خطيرة قد لا يتمكن الأطباء في كثير من الأحيان من الحد منها أو إيقافها؛ إلى وسيلة للربح السريع.

تحولت الصيدلية إلى مجرد دكان لبيع الدواء في أذهان الكثير من أصحاب الصيدليات الذين لا يحوزون شهادة علمية تؤهلهم للعمل في المجال الطبي، وخاصة في السنوات الأخيرة، في ظل الظروف التي تشهدها المناطق المحررة من انفلات أمني ورقابي وغياب للكوادر الصحية التي هاجر معظمها نظراً لظروف الحرب. لتبدأ في الأشهر الأخيرة، وبسبب كثرة الشكاوى من الأخطاء الطبية، شعبة الرقابة الصيدلانية في دائرة الرقابة الدوائية التابعة لمديرية الصحة في محافظة إدلب الحرة، حملة للحد من انتشار هذه الظاهرة ولإغلاق الصيدليات المخالفة.

الحج محمد علي الحسين، أحد أبناء ريف المعرة في محافظة إدلب، قال لـ«عين المدينة» إن خطأ طبياً كاد أن يودي بحياة طفلته ذات الخمسة أعوام، بعد أن أعطاها أحد العمال في الصيدلية دواء للصرع على أنه خافض للحرارة. بدأت الطفلة بالاختلاج، وعند إسعافها إلى المشفى اكتشف الطبيب الخطأ وقام بالإسعافات اللازمة، ولكن الطفلة ما زالت تعاني من نوبات اختلاج حتى الآن.

ويكمل الحج محمد: «أنا أعرف عامل الصيدلية، هو من أبناء قريتي. لم أتقدم بشكوى ضده لاعتبارات عائلية، ولكنه لا يبلغ من العمر 18 عاماً فمتى أنهى دراسة الصيدلة؟!». وعن سبب ذهابه إلى هذه الصيدلية قال الحج محمد: «ليس في القرية سواها، ولا يوجد أطباء، بالإضافة إلى ضعف الحال؛ كل ذلك يجعلنا نتوجه لشراء الأدوية من الصيدليات».

ظاهرة انتشار الصيدليات المخالفة ليست جديدة، وإن كانت قد تفاقمت بشكل واسع في السنوات الأخيرة. فتأجير شهادات الصيدلة أمر شائع في سوريا منذ سنوات كثيرة قبل الثورة، وخاصة في الأرياف. إذ على خريج الصيدلة، بموجب القانون السوري، الخدمة في الريف لمدة سنتين قبل أن يتمكن من نقل ترخيصه إلى المدينة. فكان الصيدلي يؤجر شهادته لأحد أصحاب الخبرة مقابل مبلغ وصل في عام 2011 إلى 30 ألف ليرة للشهادة المرخصة في المدينة و20 ألفاً للمرخصة في الريف.

وعن هذا يقول الصيدلاني ماجد الإبراهيم: «باتت الصيدليات أشبه بدكاكين السمانة. وصرت ترى عدد الصيدليات المخالفة في كل قرية يفوق عدد الصيدليات النظامية، عمالها بأعمار صغيرة وخبرة دوائية ضعيفة، معظمهم لا يملكون شهادات جامعية، وبعضهم لا يجيد اللغة الإنجليزية، يجهلون التراكيب العلمية والآثار الجانبية للأدوية. ورغم ذلك نرى الكثير منهم يقومون بالتشخيص بدلاً من الأطباء، ويصفون الدواء دون دراية بمخاطره. وتحولت بعض الصيدليات إلى عيادات لقياس الضغط وتخييط الجروح ومعاينة المرضى».

ويكمل: «من المتعارف عليه في القرى والمدن السورية لجوء معظم الناس إلى الصيدليات للعلاج، فحال الناس لا يخفى على أحد، بالإضافة إلى ندرة الأطباء في هذه المناطق، ما فاقم المشكلة وزاد الأمر سوءاً».

أما أبو محمود، أحد المستثمرين الذين يملكون صيدلية في جبل الزاوية، فقال: «أعمل في صيدلية منذ عشرين سنة. أحاول قدر الإمكان تجنب إعطاء الأدوية ذات الآثار الجانبية الخطرة، ولا أتدخل في التشخيص. معظم الصيادلة تركوا البلاد وهاجروا إلى تركيا أو إلى أوروبا، وأعتقد أن ما أقوم به عمل إنساني أراعي فيه عدم الإضرار بأحد. ما الحل برأيك؟ إن أُغلقت الصيدليات المخالفة فلن تبقى صيدليات في المنطقة».

ويطلب أبو محمود إجراء اختبار له في الأدوية كدليل على معرفته بالتراكيب العلمية وقدرته على قراءة الوصفات، أو أن تقوم وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة بفتح مراكز تدريب للعاملين في الصيدليات، واختبارهم إثر ذلك ومنحهم شهادات مساعد صيدلي يتمكنون من خلالها من ممارسة هذه المهنة.

الدكتور محمد شعبان قال لـ«عين المدينة»: «انتشرت، خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة بيع الأدوية دون وصفة طبية، وبأخطاء قاتلة في كثير من الأحيان. الأطباء يصفون الأدوية بعد الكثير من الفحوصات والتحاليل المخبرية ومعرفة العمر والوزن. التعامل مع الأدوية يجب أن يكون دقيقاً، وقد يصبح الدواء قاتلاً في بعض الأحيان عند حصول أي اختلاطات».

ويستغرب الدكتور محمد من جرأة بعض العاملين في الصيدليات على وصف بعض الأدوية التي يهاب الأطباء وصفها إلا في الحالات الضرورية، كالأدوية النفسية وبعض الأدوية ذات الطبيعة المخدرة، التي انتشر بيعها في الآونة الأخيرة، خاصة وأن 80% من الأدوية السورية لا يجوز بيعها بدون وصفة طبية.

وللوقوف على الإجراءات التي اتخذتها مديرية الصحة الحرة في محافظة إدلب للحد من هذه الظاهرة، وعلى الحلول البديلة، تواصلنا مع الدكتور علاء أحمدو مدير الرقابة الدوائية، الذي قال لنا: «تأسست دائرة الرقابة الدوائية في 1/4/2016 في محافظة إدلب، من كادر نوعي من ذوي الكفاءات العالية من حملة شهادة الدكتوراه والماجستير. وفي قسم الرقابة الصيدلانية، أحد أقسام الدائرة، وضعت خطة عمل تشمل كامل محافظة إدلب مدينة وريفاً، بهدف إغلاق الصيدليات المخالفة وفق جدول زمني».

وعن خطة العمل هذه قال الدكتور علاء: «بداية، ونظراً لكثرة الشكاوى الواردة في ما يخص عمل الصيادلة وما له من تأثير على حياة الناس، تم جمع قاعدة بيانات عن الصيدليات المخالفة والنظامية في كامل المحافظة، وتم تطبيق قرار إغلاق الصيدليات التي لا يديرها صيدلاني. أغلقنا 22 صيدلية في مدينة إدلب وأريحا لمدة أسبوعين، وأنذرناهم لتسوية أوضاعهم، فاستجابت 14 صيدلية وصححت وضعها بالاستعانة بصيادلة وإدارات فنية مختصة، أما باقي الصيدليات الثمانية فلم تستجب وجرى تشميعها بالشمع الأحمر بالتعاون مع الجهات التنفيذية في المناطق المخالفة. كما تم توزيع إنذارات جديدة في مدن معرة النعمان ومعرتمصرين وبنش وسراقب لإغلاق الصيدليات المخالفة».

وأضاف الدكتور علاء: «أما بالنسبة إلى باقي القرى والمدن فلدينا في شعبة الرقابة قواعد بيانات لكامل محافظة إدلب كما قلت. بدأنا بالمناطق الأساسية ومراكز المدن، وسننتقل إلى باقي المناطق تدريجياً وفق مخطط زمني. وهذا الأمر يتم بالتعاون مع الجهات التنفيذية في هذه المناطق ومع جميع المحاكم. سيتم إرسال الإنذارات في البداية وفي حال عدم الاستجابة سيتم إغلاق الصيدليات المخالفة».

كما تقوم دائرة الرقابة الدوائية «بجولات على الصيدليات والمستودعات العامة والخاصة، واستصدار التعاميم الخاصة بسحب الأدوية المخالفة وتعميمها على منافذ بيع الدواء والنقابات الطبية والمراكز الصحية والمشافي. وتمثل هذه الإجراءات الخطوة الأولى في طريق تنظيم عمل الصيدليات بهدف ضبط تداول الدواء وصرفه، ومنع الإتجار بالأدوية المخدرة، وضبط أسعار الأدوية».

ورداً على سؤالنا عن الشهادات المزورة أجاب الدكتور علاء: «هناك لجنة خاصة في دائرة الرقابة الدوائية لفحص الشهادات والتحقق من الأوراق الثبوتية والتأكد منها. وفي حال كانت الشهادة مزورة يتم تحويل الشخص إلى المحاكم المختصة ويتعرض لعقوبة السجن، كما حدث في مدينة إدلب في العام الماضي، إذ تمت إحالة صاحب إحدى هذه الشهادات إلى المحكمة وسجنه بتهمة التزوير».

وعن هجرة أصحاب الشهادات والنقص الحاصل في الكوادر العلمية قال رئيس دائرة الرقابة الدوائية: «البديل موجود في جامعة إدلب. فالطلاب الذين يدرسون في كلية الصيدلة وصلوا إلى السنة الثالثة، وهذا الأمر سيؤهل كوادر جديدة ستضاف إلى مديرية الصحة ضمن السوق الدوائية المحلية».

تعمل دائرة الرقابة الدوائية بالتعاون مع المجالس المحلية والمكاتب الطبية الموجودة فيها، بالإضافة إلى المؤسسات القضائية للمساعدة في تنفيذ إغلاق الصيدليات المخالفة والحد من انتشار هذه الظاهرة، على حد قول الدكتور علاء الذي وصف موضوعات الرقابة والصحة بالمواضيع «الحساسة» التي يجب على جميع الجهات التنبه لها والمساعدة والتعاون فيها، من أجل حماية المواطنين ومعاقبة المخالفين.