فارس جاشوق

في ربيع العام 2017 اعتقلت "هيئة تحرير الشام" في إدلب أبو ياسين (أحد أبناء ريف دمشق) وزجته لأربعة أشهر في سجنها الشهير "العُقاب". وعن تلك الواقعة وما عايشه خلالها وعرفه بفعل احتكاكه بمعتقلين آخرين عن السجن وكيفية تعامل السجانين وطرق التعذيب والاستجواب، تحدث الرجل الخمسيني لعين المدينة بتفاصيل تنشرها المجلة كشهادة شخصية تدخّل الكاتب وهيئة التحرير في ترتيبها ونقلها إلى لغة أكثر تداولاً واختزال أجزاء منها لاعتبارات النشر.

يُنظر عادة إلى العقاب كسجن أمني رهيب خاص بهيئة تحرير الشام في الشمال السوري، دون التوقف عند كونه سلسلة من السجون وليس سجناً واحداً، بلغ عددها أربعة عشر هي عبارة عن 11 مدجنة هجرها أصحابها أثناء اشتداد وتيرة المعارك والقصف المكثف على قراهم في جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي، في الطرق الجبلية الواصلة بين البارة- كفرنبل، واحسم- دير سنبل؛ إضافة إلى 3 مغاور تم تجهيزها خلال فترة قصيرة جداً لتصبح بمثابة الأفرع الأمنية التابعة للهيئة، في محاكاة واضحة للأفرع الأمنية الخاصة بنظام الأسد، كما يُنظر إليها محلياً، وتبقى مغارة كنصفرة السجن الرئيسي الأخطر والأكثر تشديداً بالنسبة إلى الهيئة ومعتقليها.

ولا يقتصر سجن العقاب على أسرى قوات النظام أو الخلايا التابعة لتنظيم داعش، كما يشيع في أوساط قريبة من الهيئة أو في عموم الشمال السوري، ولا حتى على الإعلاميين والناشطين المناهضين لفكر الهيئة القاعدي، فلأبو ياسين قصة أخرى عن سبب اعتقاله تشي بوجود معتقلين جنائيين بين جدران السجن، لكن ربما ضمن وضعيات خاصة أو منازعات تتدخل في مجراها مكانة الأطراف الأخرى في النزاع.

يعيد أبو ياسين سبب اعتقاله إلى خلاف مالي/ شخصي مع أحد أمراء الهيئة (جبهة النصرة سابقاً) في ريف دمشق، "بعمري لا حملت سلاح ولا انضميت لفصيل، وهاتفي ما بينزل عليه فيسبوك، لك حتى اسمي ما بعرف اكتبو" يقول أبو ياسين الذي يسرد حكاية استدانة أحد أمراء هيئة تحرير الشام منه مبلغاً مالياً في ريف القنيطرة، "تربطني به معرفة شخصية منذ زمن بعيد، وهو المسؤول عن تأمين ما كنت أقوم بنقله إلى ريف دمشق من أدوية ومعدات وذخائر وغيرها، قال لي إنه ينوي شراء مستلزمات لأنقلها عند عودتي وينقصه 7000 دولار وطلب مني تأمينها كـدين، وبالفعل جلبت المبلغ". ويتابع "حتى جاء وقت تهجيرنا نحو محافظة إدلب مطلع عام 2017، وقتها أحالني إلى أحد أبناء بلدتي لتحصيل الدين عوضاً عن المبلغ الذي استدانه الأمير، وبالفعل استطعت تحصيل 5000 دولار منه".

بعد وصوله إلى إدلب بثلاثة أشهر، وحين لم يكن يضع في حسبانه ما يُبيّت له بشأن المبلغ المالي، وصل رتل مؤلف من خمسة سيارات "بيك آب" بينها اثنتان تحملان رشاشات ثقيلة برفقة نحو ثلاثين عنصراً ملثماً بسلاحهم الكامل لاقتحام منزله، "اقتحموا بيتي بدون ما يدقوا الباب حتى، وإذا بتشوف الرتل يلي أخدني بتفكر بشار الأسد ساكن بالبيت" يقول أبو ياسين الذي ما زال متأثراً من هول المشهد.

داخل منزل أبو ياسين تولى العناصر المقتحمون تغطية رأسه بقطعة قماشية سوداء تشبه اللثام، واصطحبوه معهم إلى "الموكب الحربي" المنتظر في الخارج، ومنه إلى مكان لم يعرف عنه شيئاً في الأيام العشرة الأولى. يتحدث عن تلك الأيام بالقول "كنت بمنفردة مساحتها متر مربع واحد، لا أرى فيها سوى البوابة الحديدية والحارس الذي تميزه عنها بحركاته، فمهما تحدثت معه أو سألته لا يجيب بأي حرف، ولم أسمع منه طوال تلك الأيام سوى كلمتين فقط "الأكل، وتحقيق".

لكن الأيام اللاحقة أعطته فكرة جيدة عن المكان الذي هو فيه، فصار يعرف أنه مغارة تخنقها الرطوبة، خالية من النظافة، تحوي 26 منفردة مساحة الواحدة منها متر مربع، في كل منها معتقل أو اثنان، و3 جماعيات تصل أبعادها إلى (4*5 متر) في كل واحدة 30-40 سجيناً، عادة ما يكونون من أصحاب القضايا الأمنية، بحسب ما يفصّل أبو ياسين.
ويتابع: "نستيقظ يومياً قبل أذان الفجر حوالي الساعة الرابعة صباحاً، ونبدأ نهارنا بمسح الجدران والتيمم لنؤدي صلاتنا لأنه لا وجود للمياه، نجلس بعدها بانتظار الفطور الذي لا يوزع قبل العاشرة صباحاً. يتألف الفطور من العدس المسلوق ومربى البندورة وزعتر، إضافة لثلاثة أرغفة خبز توزع كل يومين، أما الغداء فيوزع الساعة الرابعة عصراً، ويكون في أغلب الأحيان برغل، وفي المناسبات فريكة أو دجاج".

أما عن التحقيق ووسائل التعذيب فيقول: "يبدأ التحقيق الساعة 12 ليلاً ويستمر حتى الساعة الرابعة فجراً، وكما هو حال معتقلات الأسد، فالضرب والشبح والدولاب وبساط الريح شيء أساسي في العُقاب، ولا يخلوا من بعض الضربات على الوجه والمناطق الحساسة، عدا عن الكلام المهين والتهم الباطلة التي تُوجه للمعتقلين بشكل متكرر". ويضيف باستسلام: "كل هاد مقدور عليه وبتتحملو، بس ما يحطوك بالتابوت ربع ساعة".

"هو وسيلة تعذيب لا تجدها إلا في سجون هيئة تحرير الشام، وربما في العُقاب فقط"، يستطرد. والتابوت مستوعَب من صفائح الحديد المفصلة على هيئة البراد المنزلي، له مقود مثل مقود السفينة لتقريب الصفائح من بعضها البعض وإبعادها، يوضع المعتقل فيها وتضغط الصفائح على جسمه "حتى تسمع صوت عظامه داخلها، وترتبط درجة (العصر) والضغط بالمعتقل وتحمله، لكن من المستحيل خروجه من داخلها قبل الاعتراف بما ينسب إليه، ولو لم يكن على دراية به من قبل".

تعود مسألة التنفس خارج المغارة إلى مزاج أمير السجن، وعادة ما تكون نصف ساعة أسبوعياً فقط، باستثناء وقت زيارة "شرعي" تحرير الشام إلى السجن، حيث يتم إخراج جميع السجناء إلى الخارج لحضور "الدرس الشرعي" وتقديم الشكاوى "إن تجرأ أحدهم على ذلك". ويبقى الدرس قرابة الساعتين لكن بشكل غير منتظم وأوقات متفاوتة.

اعتقل أبو ياسين 4 أشهر قبل إبلاغ عائلته عن مكان وجوده، ولم يخرج من السجن إلا بعد أن أعادوا المبلغ الذي حصّله قبل التهجير من ابن بلدته لأمير السجن. يتذكر أبو ياسين في نهاية حديثه بمرارة وسخرية أن إدارة السجن تفرض مبلغاً مالياً مقابل الإقامة والطعام في سجن العُقاب، بتكلفة 3 آلاف ليرة سورية لليوم الواحد (ما يقارب 6 دولارات) ولا يمكن إخلاء سبيل السجين قبل دفعها.

على أن إخلاء السبيل لا يتم قبل جولة أخرى يمر بها السجين بعد قضاء فترة حكمه أو إثبات براءته في دور القضاء الخاصة بالهيئة، والتي لا يختلف نظامها كثيراً عن نظام العُقاب، بحسب أبو ياسين، حيث يتم نقل السجين بعد إخلاء سبيله من العُقاب إلى دور القضاء في قرية مرعيان بجبل الزاوية أو في مدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، والتي لن يخرج منها قبل مدة تتراوح بين الأسبوع والشهر، لكن قياساً بسابقه فإن إدارته تتكفل بمصاريف إقامة السجناء، الذين من الممكن أن تبقى عيونهم مفتوحة في بعض الأحيان، كما يقارن أبو ياسين بتهكم.