بعينين ممتلئتين دموعاً ولهجة حانية وحزينة، سمعت منها آخر الكلمات دون واسطة افتراضية باتت توفرها السوشيال ميديا بكل سهولة فيما بعد. "دير بالك على حالك".. قالتها والدتي ثم احتضنتني. التحقتُ يومها بجبهات القتال وغادرتْ أسرتي خارج البلد. كان ذلك نهاية العام 2012، ومن يومها حل التواصل الافتراضي في علاقتي بوالدتي وسائر أفراد أسرتي المشتتين في ديار الله الواسعة، مكان اللقاء الحقيقي.

لم أعد أشعر بتاريخية لحظة الفراق. أقارن هذه اللحظة مع نظيراتها قبل عصر السوشيال ميديا: والدة تودع ابنها قبل عقد كامل من الزمن ولا وسيلة للتواصل معها سوى المكاتيب الورقية، كل مساء يفكر الشاب في تفاصيل اللقاء الأخير (الدموع المنهمرة، العبارات الأمومية الحنونة، الحضن الدافئ، نظرة الوداع الأخيرة). أما الأم فتمسح دموعها بوسادتها وتبكي أيضاً كلما ذكر اسم ابنها من ألم الفراق. شتان بين هذه الصورة وصور الرحيل مع ما توفره وسائل التواصل حالياً من حضور يومي ولحظي بين الأشخاص المتباعدين في الأمكنة، لكنهم قريبون بعضهم من بعض لدرجة تفوق خيال جيل ما قبل السوشيال ميديا.

تلعب وسائل التواصل دوراً جديداً في حياة السوريين، تالياً لمرحلة امتزاج النشاط الثوري بالفيسبوك، ويتضمن هذا الدور لملمة شتات الأسرة السورية التي فرقتها ظروف الحرب. لم تعد الغاية من افتتاح حسابات في فيسبوك الاشتراك في تنسيقيات الثورة -على الرغم من بقاء الهدف الأساسي وهو متابعة الحدث بكافة تفاصيله-، بل غدت تطبيقات وسائل التواصل بمثابة المفتاح السحري للحضور بالصوت والصورة مع الأهل والمعارف والأصدقاء بالرغم من تباعد الأمكنة. وهذا ما ساهم في تخفيف أعباء اللجوء والنزوح اجتماعياً، فهنا حيز افتراضي بإمكان الجميع التواصل من خلاله، ومتابعة أدق التفاصيل التي تخص الأقارب والأصدقاء بشكل آني.

تزامن انتشار الرقمنة بشكلها الموسع المعروف حالياً وبمظاهرها التي تعد السوشيال ميديا من أهم مضامينها، مع اندلاع الثورة السورية ورغبة شريحة واسعة من السوريين في تغيير الهرم السياسي. وهكذا اندمج السوريون في ثورتين ظلتا تشكلان خطين متداخلين طوال السنوات الأولى من الثورة، كانت إحداهما تكنولوجية تعتمد على فيسبوك بالمقام الأول، والأخرى سياسية تنطلق من التنسيق والتظاهر افتراضياً، وصولاً إلى كافة أعمال النشاط الثوري الميدانية.

في إحدى حلقات المسلسل الشهير "مرايا"، يكتشف الأب (سليم كلاس) التحولات الكبيرة التي حلت بأفراد الأسرة؛ الابن قد تخرج من الجامعة، والأم التي يكتشف أولادها زيادة وزنها من حبها ل"النقودة" وجلوسها في المنزل، تصطدم بكمية الشيب الذي يعلو رأس زوجها. وهكذا يتفاجأ الجميع بضعف حالة التواصل فيما بينهم، على الرغم من تسمرهم الطويل معاً أمام جهاز التلفاز، وتشكل حالة العطل المؤقت والمفاجئ للجهاز الذي كان يشهد في التسعينات عصره الذهبي، فرصة قد لا تتكرر -في ذلك الوقت- لإعادة التعارف بين أفراد أسرة ما قبل ثورة السوشيال ميديا التي قلبت مفاهيم التواصل "360 درجة" كما يقال.

تنعكس المعادلة مع استعمال الأجهزة اللوحية التي تتصف بالفردانية ما يجعلها أداة تفرقة في المجال الفيزيائي، مقابل تواصل افتراضي إلى حد الترف والانفجار، ما يبدد رتابة الحياة المعتادة سابقا. في كتابه "من داخل السرب آفاق رقمية" يوضح بيونغ شول هان، أن "الهاتف الذكي أصبح يمنحنا المزيد من الحرية، لكنه في الحقيقة يحمل قهراً قاتلاً يسمى قهر التواصل. والآن تهيمن الطبيعة الاستحواذية القهرية للأجهزة الرقمية على علاقتنا بها".

وإذا كانت هذه الحالة الجديدة تنطبق على جميع رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فإن للسوريين -وربما معظم أبناء الدول العربية التي شهدت الربيع العربي-، حكاية خاصة مع فيسبوك تحديداً، كونه يعد التطبيق الشعبي الذي شكل عماد العالم الافتراضي.

مع نهاية العام الأول للثورة السورية، وانتشار أجهزة نوكيا اللمسية المتواضعة جداً مقارنة بما تلاها من الأجهزة اللوحية الأخرى، كان معظم السوريين ممن يمتلكون هذه الأجهزة الصغيرة قد اشتركوا في فيسبوك، وكان الهدف الرئيسي من حساب فيسبوك ليس التواصل الافتراضي والتحدث من خلال ماسنجر أو نشر التدوينات والتعليق على تدوينات الآخرين؛ بقدر ما كانت الغاية هي الاشتراك في التنسيقيات الثورية التي شكلت في ذلك الوقت المصدر الأول لمعرفة الحدث اليومي للثورة.

أذكر الحاج محمود الذي لا يكاد "يفك الحرف" حين طلب من حفيده صنع حساب فيسبوك بهدف "متابعة التنسيقية". ونظراً لقلة الخبرة بهذا الوافد الجديد على حياة الحاج محمود، يشير إلى حفيده بالبحث عن صفحة التنسيقية والاشتراك بها مسبقاً، ثم حفظ الصفحة كي يتمكن من العثور عليها بشكل سهل.

كان فيسبوك في ذلك الوقت يعني التنسيقية، بل كان جزء كبير من العمل الثوري يعني فتح حساب على فيسبوك والاشتراك في المجموعات السرية وتبادل التدوينات والتعليقات والصور في ظروف بالغة السرية، وكان معظم الفيسبوكيين السوريين ينشطون من داخل صالات الإنترنت لعدم امتلاكهم أجهزة لابتوب، وهو ما يعرضهم لمخاطر كبيرة كأن يندسّ أحد عملاء النظام في الصالة مراقباً أي نشاط مريب. وفي أحيان كثيرة كان عناصر الأمن يقتحمون صالات الإنترنت طالبين من جميع الزبائن رفع أيديهم والوقوف جانباً، وفي هذه الحالة يكون الاعتقال من نصيب سيء الحظ الذي لم يتمكن من إغلاق فيسبوك خلال لحظة حاسمة من الزمن.

في منزل أحد أصدقائي، الذي يمتلك جهاز كمبيوتر وحساباً على فيسبوك، -وهي أدوات لازمة للناشط الثوري في تلك الأيام- جرى تحذيرنا من مداهمات في الحي قد تطال المنزل الذي نجلس فيه. وفي غضون لحظات جرينا خارج المنزل ونسينا إطفاء الجهاز، لكن والدة صديقي أنقذت الموقف من خلال حمل الجهاز وتحطيمه خارج المنزل قبل وصول عناصر الأمن. وهكذا تم إنقاذنا مقابل خسارة جهاز ثمين كنا نمارس معظم نشاطاتنا من خلاله.

قد تبدو هذه الأفكار مضحكة مقارنة بتوفر الأجهزة اللوحية بأحجام مختلفة مع عشرات تطبيقات التواصل الاجتماعي المتقدمة على فيسبوك بين السوريين اليوم. فقد جعلت الأجهزة اللوحية -التي يمكن تأريخ تداولها بشكل موسع بين السوريين مع بداية العام 2013-، السوشيال ميديا خبزاً يوميا للجميع. أما خلال الأعوام الأولى للثورة، وخلال سنوات الحصار تحديداً، فقد كان يتم تهريب الأجهزة اللوحية ضمن ذات الحمولة التي تشمل الأسلحة والذخائر. كان الفيسبوك سلاحاً فعالاً إلى جانب ال"آر بي جي" وال"الكلاشينكوف".

خلق الفيسبوك ووسائل التواصل الأخرى جماعات جديدة عابرة للحدود ولا يعترف تواصلها بالمكان، لكنه في المقابل غذى وأظهر للعلن التركيبات الاجتماعية وأنماط التعامل مع الآخر التي كانت غير معلنة ضمن المجتمع السوري في المراحل التي سبقت الثورة. السوريون في هذا المجال يتعاملون مع الحدث من منطلق الشللية والتأييد المطلق لكل ما يبدر عن زملاء الفكر أو المهنة أو الجماعة أو المنطقة أو أي عصبية أخرى، بغض النظر عن كونهم ما زالوا ينظرون للحدث السوري من منظار "الثورة الأولى" ويصدرون استناداً إلى  هذا التخييل آراءهم حول الأحداث والشخصيات والأفكار، أو كانوا أكثر "واقعية" وانخراطاً ووعياً للتغيير الذي طال الجميع، أو كانوا في حالة الإنكار القديمة التي تزامنت مع بداية الثورة.

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي منذ الشرارة الأولى للثورة كمصدر معتمد للأخبار تستقي منه جميع وسائل الإعلام. وتعد ظاهرة "المواطن الصحفي" إحدى أهم المفرزات الناجمة عن تزاوج النشاط الثوري بالفيسبوك. كان نشطاء التنسيقيات يظهرون على الشاشات لتأدية مداخلات حول الأوضاع، وفي تلك الفترة كان الإعلام المعارض لا يزال يحبو. لاحقاً شكل هؤلاء النشطاء الفيسبوكيون البنية التحتية لمعظم الصحافة المعارضة التي عمل خبراؤها -القاطنون غالباً خارج سوريا- على تدريب وتأهيل عشرات المواطنين الصحفيين الذين غدوا كتاباً ومراسلين ومصورين محترفين، يعملون في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، بل وحصل عدد كبير منهم على فرص عمل في القنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء العربية والأجنبية.