في إدلب.. نساء معيلات بين العوز واستغلال أصحاب الأعمال "اتركي العمل إن كنت غير راضية لتأتي أخرى بنفس الأجر، وربما أقل"


سوق شعبي في مدينة إدلب – نورث برس

رغم تدنِّي الأجر الذي تحصل عليه والساعات الطويلة التي تقضيها خارج منزلها، لا يمكن لـ"نورة" أن تترك العمل بسبب حاجتها للمال، من أجل الإنفاق على أبنائها الأربعة، وبعد أن أصبحت فجأة الأب والأم بالنسبة إليهم، منذ وفاة زوجها قبل ثلاث سنوات.

نورة السايح (36 عاماً) واحدة من آلاف النساء السوريات اللواتي فقدن السند والمعيل لموت أو اعتقال أو تهجير، ووجدن أنفسهن مجبرات على العمل، وتحمُّل مسؤولية الإنفاق على أسرهن، رغم عدم امتلاكهن المؤهلات العلمية والمهنية، فأصبحن عرضة للاستغلال في أسواق العمل. حيث يقف وضعهن المادي والاجتماعي الهش في وجه بحثهن عن فرص عمل أفضل، أو مطالبتهن بتحسين ظروف العمل أو أجره، إذ تزخر سوق العمل بالأيدي العاملة البديلة والرخيصة من ذات الفئة من النساء، واللواتي يفضل أصحاب الأعمال تشغيلهن. يأتي ذلك فوق ما يعانيه سوق العمل أساساً من انتشار البطالة، والعادات والتقاليد التي تحدُّ من فرص عمل المرأة، ما جعل من النساء المعيلات عرضة للعمل في وظائف ومهن تتطلب جهداً عضلياً ونفسياً كبيرين، والبقاء لوقت طويل خارج منازلهن .

نورة نزحت من مدينة كفرنبل إلى مخيم في بلدة دير حسان، وعن معاناتها تقول لـ“عين المدينة“: "أعمل مع أخريات في ورشة لكبس وتغليف التين المجفف، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة مساء، مقابل 10 ليرات تركية يومياً، بالكاد تكفيني لتأمين الحاجات الأكثر ضرورة في المنزل".

تضم الورشة التي تعمل بها "السايح" 120 عاملاً، بينهم 110 نساء، حيث يستغل أصحاب مثل هذه الورش والمشاغل ازدياد تدفق النساء المعيلات لسوق العمل، فيعمدون إلى تشغيل أعداد كبيرة من النساء بأجور متدنية، بهدف إنجاز العمل بشكل أسرع وبأقل التكاليف، لكون غالبية الرجال لا يرضون بمثل هذا الأجر القليل بسبب قدرتهم على مزاولة العديد من الأعمال. تشكو السايح من الغلاء الذي لا يتناسب مع الأجر القليل الذي تحصل عليه، الأمر الذي دفعها للاحتجاج على قلة الأجر، ليأتيها الرد من صاحب الورشة: “اتركي العمل إن كنت غير راضية لتأتي أخرى بنفس الأجر، وربما أقل". معاناة السايح لا تختلف عما تعانيه كثير من النساء اللواتي يعملن ضمن الورش الصغيرة التي تنتشر في إدلب، وتجذب النساء إليها بأجور رخيصة وظروف عمل قاسية، وتهديد دائم بالفصل من العمل، بسبب محدودية الفرص، ووجود عرضٍ كبير من قوة العمل النسائية.

لا تبدو صفية البكور (26 عاماً) أكثر رضاً عن عملها في مشغل للخياطة، وتوضح لموقعنا بالقول: "نزحنا من ريف معرة النعمان الشرقي إلى مدينة إدلب منذ أكثر من سنة، وأضطر للعمل لأساعد والدي المسن في تأمين مصروف المنزل، حيث أجلس مدة 7 ساعات خلف آلة الخياطة ماعدا فترة نصف ساعة للغداء“.

تتغاضى البكور عن آلام الظهر والرقبة الذي يسببه الجلوس المتواصل لساعات طوال، وعن الأجرة اليومية تقول: "أنا وشطارتي، ولكن أجري لا يتعدى 15 ليرة تركية في أحسن الأحوال كل يوم“. 

لا تتوقف معاناة النساء المعيلات عند حدود الاستغلال جراء قلة الأجر، حيث يشتكين من البطالة وقلة فرص العمل، باعتبار الشريحة الأوسع من هذه الفئة لا تمتلك مهارات تؤهلها لكسب العيش، إلى جانب الركود الاقتصادي في المنطقة، وقلة المشاريع التي تُخضع النساء لدورات مهنية فاعلة وحقيقية تؤهلهن لدخول سوق العمل، وغياب القوانين والإجراءات التي تضمن حقوقهن. فاطمة السليم (24 عاماً) من مدينة إدلب اعتقل زوجها منذ أربع سنوات، وتعيش مع طفليها في منزل أهلها. وفي محاولة منها لتغيير واقع العوز الذي تعيشه، خضعت لدورة لمدة شهرين في مركز لتمكين المرأة داخل المدينة، بهدف تعلم مهنة تصفيف الشعر (الكوافيرة)، ولكنها لم تتمكن من إتقان المهنة على نحو يؤهلها لتأسيس عمل خاص بها. توضح لـ“عين المدينة“ بقولها: "الدعم المقدم من قبل المنظمات للنساء هو دعم شكلي، ومعظم الورشات لا تفيد النساء المعيلات بأي شيء، فقصر فترة التدريب، ووجود عدد كبير من المتدربات لا يحقق الفائدة من هذه المشاريع“. كما تلفت السليم إلى أن توظيف النساء في المنظمات الإنسانية يخضع للواسطة والمحسوبيات، بغض النظر عن الحاجة والشهادات العلمية.

تعمل في مناطق شمال غرب سوريا حوالي 103 منظمات إنسانية، حسب ما أحصى ناشطون في المنطقة على صفحاتهم الشخصية، لكن تلك المنظمات تعجز بغالبيتها عن تأمين مشاريع توفر فرص عمل للنساء المعيلات في المنطقة.

وتتنوع الأعمال التي تزاولها النساء المعيلات في إدلب كالخياطة والتطريز والنسيج، كما ظهرت النساء في أعمال كانت فيما مضى حكراً على الرجال، فأصبح مألوفاً أن نشاهد نساء يعملن كنادلات في المطاعم، أو بائعات للملابس في المحلات والشوارع، أو مندوبات للمبيعات . أم حسن (40 عاماً) لم ترزق بأطفال، لكن ظروفها أجبرتها على العمل كطاهية داخل مطعم في مدينة الدانا لتعيل نفسها وأمها المسنة، وعن ذلك تقول: "ما كنت أتوقع أن إتقاني للطبخ سيؤهلني لتحصيل مصروفي اليومي وكسب لقمة عيشي“. تبين أم حسن أن البداية لم تكن سهلة على الإطلاق بسبب إعداد كميات كبيرة من الطعام، إلى جانب الإرهاق والتعب جراء عملها، ولكنها تحمد الله لأنها حظيت بعمل في هذه الظروف الصعبة التي يعجز فيها الرجال عن إيجاد الفرص. 

كذلك تواجه النساء المعيلات الضغوطات النفسية والاجتماعية، منها استنكار البعض لخروج النساء الأرامل بشكل يومي إلى سوق العمل، واعتباره  أمراً معيباً، إلى جانب مشاكل إهمال المنزل، وترك الأولاد لساعات طويلة دون رعاية. أم سعيد (31 عاماً) أم لخمسة أبناء، نزحت من معرة النعمان إلى مدينة سلقين، واضطرت للعمل للإنفاق على أبنائها، بعد إصابة زوجها بمرض عضال منعه من العمل، وعن ذلك تقول: "سافر زوجي إلى تركيا للعلاج، واضطر للعمل في الورشات الزراعية لأنفق على أولادي، وتأمين مصاريف تعليمهم“. تشير أم سعيد إلى أنها تزاول مع العديد من النساء أعمال القطاف وزراعة الخضار الموسمية وتقليب التربة والتعشيب، مؤكدة أن ضغط العمل يمتد منذ أواخر فصل الشتاء حتى نهاية فصل الصيف، وهي تضطر لترك أبنائها في المنزل لوحدهم طوال اليوم، علماً أن أصغرهم لم يتجاوز العامين من العمر. وتنوه أم سعيد إلى أنها تعود إلى المنزل في المساء منهكة القوى، لتبدأ بتنظيف المنزل وطهي الطعام ومتابعة دروس أولادها.

المرشدة الاجتماعية حنان الصبوح (39 عاماً) من مدينة إدلب، تعمل في مجال الصحة المجتمعية تتحدث لـ“عين المدينة“ عن أوضاع النساء المعيلات بالقول: "عدة أسباب اقتصادية واجتماعية دفعت بالكثير من النساء السوريات للعمل، ومكّنتهم من الدخول إلى ميادين عمل جديدة، كان العرف يمنعهن من مزاولتها“. وتلفت الصبوح إلى أن النساء المعيلات هن أكثر الفئات احتياجاً للدعم والمساندة من قبل المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، من خلال توفير التدريب والتأهيل والمساعدات المادية، وتنمية إمكاناتهن وصقل مهاراتهن، للخروج من دائرة الفقر والحاجة إلى العمل والإنتاج، ومنع تعرضهن للاستغلال بكل أشكاله“.

وورد في بيان أصدره فريق ”منسقو الاستجابة“ بتاريخ 28 من شهر كانون الأول الفائت، حول التركيبة السكانية في مناطق شمال غرب سوريا، أن عدد النساء الأرامل الفاقدات للمعيل يبلغ 46892 امرأة، أما في المخيمات فتعيش حوالي 328 ألف و 673 امرأة نازحة منهن 10 آلاف و809 امرأة أرملة .