روسيا من طرفٍ في الصراع السوريّ إلى حكمٍ بين طرفين؟

لم يكن جثمان السفير الروسيّ في تركيا، أندريه كارلوف، قد دفن بعد حين اجتمع وزراء الخارجية والدفاع لروسيا وإيران وتركيا في موسكو، حيث أصدروا بياناً مشتركاً لوضع تصوّرٍ لحلٍّ سياسيٍّ للمشكلة السورية، بدءاً بوقف إطلاق نارٍ شاملٍ على الأراضي السورية، تستثنى منه داعش والنصرة، وصولاً إلى عقد طاولة مفاوضاتٍ بين النظام والمعارضة في عاصمة كازاخستان.

بعد أقل من أسبوعٍ حدّد يوم الثلاثين من كانون الأول لبدء تطبيق وقف إطلاق النار، بعد حصول موسكو على موافقة كلٍّ من النظام والقسم الأهم من الفصائل العسكرية للمعارضة. بالقياس إلى المحاولات السابقة لوقف الحرب وإطلاق حلٍّ سياسيّ، نلاحظ زخماً كبيراً لا سابقة له، يعبّر عن إرادةٍ روسيةٍ قويةٍ للدفع نحو إنهاء الحرب.

قد يكون من المبكر التكهن بنجاح وقف إطلاق النار من عدمه، وقد دخل حيّز التنفيذ قبل ساعاتٍ قليلةٍ من كتابة هذه السطور. وتمتلئ سوق التكهنات بتوقعات إفشال العملية من قبل إيران على رغم مشاركتها في اجتماع موسكو الثلاثيّ الذي أطلق دينامية الحل على الطريقة الروسية، وذلك بالنظر إلى التباين الواضح في الأهداف بينها وبين روسيا، كما بالنظر إلى سوابقها.

لكن هذا الجنوح الروسيّ المفاجئ نحو السلم بحاجةٍ إلى تفسير. فلا يقتصر الأمر على محاولةٍ لتثمير الانتصار على حلب، بالنظر إلى الواقعة الجوهرية التالية: تخلي الروس عن وصف كلّ من رفع السلاح في وجه النظام الكيماويّ بالإرهابيّ، واعترافهم بوجود معارضةٍ مسلحةٍ معتدلةٍ يدعونها للجلوس إلى طاولة المفاوضات مقابل وفد النظام. بل هناك لغطٌ حول استثناء جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) من عدمه من اتفاق وقف إطلاق النار، الأمر الذي قد يعني خضوع هذا الأمر لمساوماتٍ بعيداً عن الإعلام.

يمكن القول، بطريقةٍ أخرى، إن اعتراف الروس بالمعارضة المسلحة هو من متطلبات التثمير السياسيّ لانتصار حلب. بمعنى أن تحويل النصر العسكريّ إلى اتفاقٍ سياسيٍّ يتطلب اعترافاً بالعدو، قبل أن تجلس معه وتتفق على حلٍّ للصراع. وفي حين لا يملك النظام، ومن ورائه إيران، غير السحق الكامل للعدو، لا يفكر الروسيّ بالطريقة نفسها، بل بفرض حلٍّ على العدو يتناسب مع نتائج النصر الميدانيّ. وهذا ما يفترض وجود العدو على طاولة المفاوضات، أي الاعتراف به كطرف.

من ناحيةٍ أخرى، لا يبدو الطرف المعارض، وفقاً للاتفاق الذي تم توقيعه بإشراف روسيٍّ–تركيّ، في موقفٍ شديد الضعف كما قد توحي هزيمته الطازجة في حلب. بل هو ندٌّ للنظام يفرض بعض الشروط قبل التوقيع، كما تقول تسريباتٌ شائعة. كذلك لا يبدو ظهيره التركيّ في وضع الملتحق الذليل بالموقف الروسيّ كما يفترض مسار العلاقات الروسية التركية بعد اعتذار أردوغان من بوتين وتخليه عن شرط الإطاحة بالأسد، وبصورةٍ خاصةٍ بعد اغتيال السفير الروسيّ في قلب العاصمة التركية، ما يرتب مسؤوليةً على الحكومة، على الأقل لجهة التقصير في الحماية الأمنية للسفير.

الخلاصة أن روسيا، التي دخلت الحرب السورية طرفاً، تبدو وكأنها تريد الخروج منها حَكَماً بين طرفين، وإن كانت قد أوقفت الطرف الذي دعمته طوال 15 شهراً على قدميه، لتجعل منه شريكاً نداً لعدوه. ربما يتعلق الأمر بأن العملية العسكرية الروسية قد وصلت، بإسقاط حلب، إلى أقصى ما يمكن لروسيا تقديمه للنظام السوريّ، أو بالشرخ الذي أخذ يتسع مؤخراً مع إيران.

لكن الأهم، برأيي، هو استعداد روسيا بوتين لفتح صفحةٍ جديدةٍ مع الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب، خاصّةً وأن الفريق الذي جمعه ترامب للعمل معه لا ينبئ بأيّ استمرارٍ في السياسة الخارجية كما كانت عليه طوال السنوات الثماني السابقة. أراد أوباما زرع إسفينٍ بين ترامب وبوتين، حين قرر طرد 35 شخصاً من البعثة الدبلوماسية الروسية، على أمل أن يرد بوتين بالمثل. لكن بوتين تصرف بـ«ذكاء» على حد تعبير ترامب، فلم يوافق على طرد عددٍ مماثلٍ من البعثة الأميركية في روسيا على ما اقترحت الخارجية الروسية.

هذه واقعةٌ ذات دلالةٍ كبيرة، قد تشكل نمط العلاقة الروسية–الأميركية في المرحلة المقبلة: أي الانحناء الروسيّ المسبق للقوة الأميركية، بدلاً من إرغامها على الانحناء. ينطبق المبدأ نفسه، إذا صح، على تحول روسيا من طرفٍ في الحرب السورية إلى حكم، وابتعادها المتدرّج عن إيران بما يتفق مع توجهات إدارة ترامب المعلنة تجاه الجمهورية الإسلامية.