بينما تحترق حلب في عصرنا، عصر الأكاذيب، ما تزال غيرنيكا بيكاسو تصدح بالحقيقة

جوناثان جونز
الغارديان/ 12 تشرين الأول
ترجمة مأمون حلبي

أعاد أندرو ميتشل، عضو البرلمان الإنكليزيّ، الوزير السابق، إلى الأذهان أشباح غيرنيكا في حديثه عن حلب. من وجه الرضيع الميت إلى الشخص الموجود وسط النار، ستبقى صورة الدمار التي قدّمها بيكاسو تحملق في وجوه الدكتاتوريين المتعطشين للدماء.

في عام 1937 قامت القوات الجوية الألمانية بقصف مدينة غيرنيكا القديمة الواقعة على تلال إقليم الباسك. كان هذا الفعل النازيّ يصب في مصلحة الطرف الفاشيّ في الحرب الأهلية الإسبانية. حصد الهجوم أرواح أكثر من 1600 شخص، وفضح فظاعة الغارات الجوية التي تستهدف المدنيين، التي ستصبح قاعدةً عندما ستندلع الحرب العالمية بعد عامين من استهداف غيرنيكا. في هذا الأسبوع أعاد أندرو ميتشل إلى الأذهان أشباح غيرنيكا. قال في مجلس العموم البريطانيّ: «ما تفعله روسيا مع الأمم المتحدة هو بالضبط ما فعلته كلٌّ من إيطاليا وألمانيا مع عصبة الأمم قبل الحرب العالمية الثانية. إن الروس يفعلون مع حلب مثلما فعل النازيون تماماً مع غيرنيكا في الحرب الأهلية الإسبانية».

إن قدرة اللوحة غيرنيكا على جعلنا نرى الجرائم الحاصلة في زماننا بوضوحٍ أكبر هي دليلٌ على الفعالية الأخلاقية التي يمتلكها الفن. ثمة سببٌ يجعل كلّ شخصٍ يرى في غيرنيكا صورةً عن بربرية القصف. لقد شهدت الحرب العالمية الثانية هجماتٍ جويةً أكثر إجراماً بكثير، ومع ذلك تبقى مدينة غيرنيكا المثال الأكثر حضوراً في الذاكرة على المستوى العالميّ عن الشفقة والتعاطف مع ضحايا الغارات الجوية؛ لأن بيكاسو هو من رسمها. لقد أشار ميتشل إلى قصف عاصمة إقليم الباسك على سبيل المقارنة كي يوقظنا. في غضون ذلك، لجأ فاسكو غارغالو، الرسام البرتغاليّ الساخر، إلى محاكاة لوحة بيكاسو ذاتها. تُدخل لوحته عن حلب وجوه بوتين والأسد إلى كابوس بيكاسو، وتحوّل حصاناً مطعوناً ومُسمّراً إلى رمزٍ للولايات المتحدة.

رسم بيكاسو هذه الرائعة الفنية بسرعةٍ في مرسمه في باريس، وعرضها في المعرض العالميّ هناك عام 1937. لم توقف اللوحة أهوال الحرب الأهلية الإسبانية، ولم تنقذ إسبانيا من 36 عاماً من الحكم الفاشيّ. ومع ذلك، إن نظرنا إليها الآن فهي لوحةٌ تنبؤية، لأن كل قنبلةٍ تُلقى على كائنٍ بشريٍّ تزيد من عمقها.

ليست غيرنيكا لوحةً تاريخيةً تقليدية، كما أنها ليست تسجيلاً وقائعياً لما حدث. إنها صورةٌ عن نهاية العالم رسمها الفنان الأكثر ثوريةً من الفنانين الحديثين. الجسد البشريّ ليس نداً لتكنولوجيا القصف، ويرينا بيكاسو ماذا يعني هذا بالضبط؛ بقايا محطمةٌ ومبعثرةٌ لمحارب، الوجه الميت لرضيعٍ مرسومٍ بكلّ تفاصيله من خلال بضع علاماتٍ بسيطةٍ تفطر القلب، شخصٌ ما محاصرٌ في بناءٍ يحترق. تدفع لوحة غيرنيكا أذهاننا إلى التركيز على جوهر الوحشية والفظاعة. إنها تجعلنا نرى الحدود القصوى للأذى والموت، هذه الحدود التي تتجنبها بحقٍّ معظم الصور الفوتوغرافية، لأن بيكاسو يرسم المعاناة البشرية الداخلية عوضاً عن التحديق في التفاصيل القاسية.

في عام 1937 كُتِب لهذه اللوحة أن تقول الحقيقة في عصر تلفّه الأكاذيب، وهذا ما لا تزال تفعله إلى اليوم. التشابه المروّع بين حاضرنا وثلاثينيات القرن الماضي هو أن الأكاذيب والدعاية المُزيِّفة تسحق الحقيقة. سياسيون من أمثال بوتين وترامب يقولون ما يشاؤون. الإنترنت يخلط المعطيات بمعطياتٍ معاكسة، وتكثر نظريات المؤامرة لدرجة أن لا أحد يصدّق أيّ شيء. مع ذلك، كنّا موجودين هنا من قبل. في ثلاثينيات القرن الماضي شنّ هتلر وستالين حرباً متواصلةً على الحقائق مستخدمين الإذاعة والسينما والرقابة والمسيرات الجماهيرية الهادفة إلى غسل الأدمغة. كان لألمانيا النازية وروسيا الستالينية جناحان ضخمان في معرض 1937 الذي عُرضت فيه غيرنيكا، لكن بيكاسو –مجرد إنسانٍ واحدٍ يشهد على الحقيقة– رسم الواقع الإنسانيّ لذلك الزمن الخسيس. لقد استمرّت هذه اللوحة حيّةً بعد موت كلّ تلك الدعايات المُزيِّفة.

Vasco Gargalo