- Home
- Articles
- Radar
«هيئة تحرير الشام» بنسختها الأخيرة والجولاني الجديد
تدرك "هيئة تحرير الشام" خطورة المرحلة القادمة، لذلك تسعى بكامل جهدها لعدم الانجرار خلف العنتريات والبطولات غير المحسوبة؛ في معارك خان شيخون لم تضع كامل قوتها حتى لا تستنزف وتبقى القوة الضاربة في المنطقة، ولأن الدول تتعامل بمنطق القوة، بات الجولاني يستذكر في مجالسه الخاصة تجربة الحرب الأهلية في لبنان، وكيف غدا بشير الجميل سيد لبنان عقب قضائه على خصومه السياسيين داخل البيت الداخلي المسيحي، ولعب دور القائد والمخلص بعد حرب طويلة أكلت الأخضر واليابس.
في كانون الثاني 2019 أعلن الجولاني قائد تحرير الشام تأييده العملية العسكرية التي كانت تركيا تحضر لها شرقي الفرات. كان التصريح صادماً وغير متوقع، وأدى لحدوث انشقاقات داخل الهيئة سرعان ما أعيد على إثرها ترتيب البيت الداخلي بما يتناسب مع المرحلة القادمة، فاتفاق سوتشي الذي ينص على منطقة عازلة على خطوط التماس مع النظام وفتح طريق التجارة الدولية بات قيد التنفيذ، وبدا واضحاً أن نسخة جديدة معدلة بشكل ملموس، وبمرونة وبراغماتية واضحتين، قد دشنت استعداداً للأيام المقبلة التي ستكون حاسمة في تقرير مصير آخر جيب يسيطر عليه الثوار في الشمال الغربي من سوريا.
عندما كُلّف الجولاني من قبل أميره السابق أبو بكر البغدادي بمهمة إيجاد موطئ قدم لتنظيم الدولة في سوريا، كان هذا الشاب الطموح يحلم بمشروع كبير، مستغلاً ثقة البغدادي به على ما يبدو، والتي سرعان ما تلاشت عقب رفضه تنفيذ بعض المهام الجريئة كاغتيال أشخاص محسوبين على القاعدة وتنفيذ تفجيرات ضد تركيا. وعند نشوب الخلاف بين زعيمي التيار الجهادي في سوريا والعراق، لم يبق مع الشاب المعجب بنفسه -إلى درجة أنه لقب نفسه بالفاتح- سوى 700 مقاتلاً، بينما انشق المئات من جبهة النصرة ملتحقين بالبغدادي. مع ذلك لم يستسلم للأمر الواقع، إذ تصرف ببراغماتية عالية سيستخدمها في فترات لاحقة، ومنها المرحلة الحالية.
بعد الخلاف دخلت جبهة النصرة في مرحلة جديدة تمثلت في الصراع الداخلي مع الفصائل بغية إيجاد رقعة جغرافية تحكمها، حتى استفردت بكامل المنطقة شمالاً عقب الهزيمة الكبيرة التي ألحقتها بحركة أحرار الشام في العام 2017، وتسنى للنصرة التي كانت قد غيرت اسمها لفتح الشام ثم "هيئة تحرير الشام"، التحكم بمعابر المنطقة وعلى رأسها معبر باب الهوى، ثم تأسيس واجهة مدنية هي "حكومة الإنقاذ"، والسيطرة على معابر جديدة هامة مثل دارة عزة والمنصورة، عشية طرد حركة نور الدين الزنكي من معاقلها في ريف حلب الغربي بداية العام 2019.
دامت مرحلة الصراع الفصائلي أكثر من خمس سنوات، قُضي خلالها على عدد كبير من الفصائل كان أبرزها ثلاث تشكيلات كبيرة: جبهة ثوار سورية وأحرار الشام والزنكي، وواكب الاقتتال استخدام أيدلوجيا صارمة تمثلت بالحكم ب"ردة" هذه الفصائل أو بتصنيفها كفصائل "باغية" على أقل تقدير؛ الحكم بالردة أتى من الأدبيات والأفكار التي يعتنقها التيار السلفي الجهادي الذي كان يدير جبهة النصرة، "فعناصر درع الفرات مرتدون" كونهم تحالفوا من الأتراك، أما بقية الفصائل فلم يكن الحكم بردة قادتهم معلناً، بل كانوا يُعتبرون ك"بغاة" بينما زرع في نفوس مقاتلي النخبة داخل المعسكرات المغلقة أن هؤلاء مرتدون يجب قتالهم.
وكما كان ظهور الجولاني على العلن وإعلان فك ارتباط تنظيمه بالقاعدة إيذاناً بولادة نسخة جهادية أكثر اعتدالاً، فبالإمكان اعتبار التصريح الذي أدلى به الجولاني حول عملية شرقي الفرات بمثابة الإعلان عن نسخة أخرى أكثر بعداً عن التيار الجهادي، وأكثر ميلاً نحو التأقلم مع المزاج الدولي من سابقاتها. وقد واجهت تحرير الشام مخاضاً عسيراً قبل ولادة مشروعها الأكثر انفتاحاً.
كانت البداية في الجانب الفكري والاعتقادي، حيث تغلب العمل السياسي على الفتاوى التي تحرم العمل مع الحكومة التركية. ففي أيلول 2017 وفي ظل تفاهمات أستانة بين تركيا وروسيا وإيران، رافق جنود الجولاني الأرتال التركية وهي تتوزع على خطوط التماس مع النظام، وكانت هذه الخطوة بمثابة جس نبض التشكيلات الجهادية داخل الهيئة.
ثم أتت الخطوة الثانية عقب دخول الأتراك، وتمثلت في إيقاف نظام الحسبة. فقد حرصت التشكيلات الجهادية في سوريا منذ بداية الثورة على إنشاء جسم خاص يقوم بالتجول في الأسواق والأماكن العامة لدعوة الناس إلى الصلاة وتوجيه النساء إلى ارتداء النقاب وإطالة الثياب وعدم التبرج، ويدعى هذا الجهاز الذي انتشر في إدلب بشكل واسع بالحسبة، وكان رجاله ونساؤه التابعون للهيئة يمارسون عملهم بشكل يومي ومكثف ومستفز في كثير من الأحيان. وقد تطور نشاط الحسبة ليغدو أكثر تنظيماً وتابعاً لمؤسسة واحدة مع نشوء "سواعد الخير"، التي لم تتمكن من ممارسة عملها سوى بضعة أشهر، ثم توقفت بشكل تام بعد أن تعرضت لانتقادات الشريحة الكبرى من المجتمع.
بداية العام 2019 ستكون حافلة بالأحداث التي ستؤدي في النهاية إلى تصريح الجولاني الشهير بالوقوف مع المشروع التركي. إذ بعد القضاء على آخر فصيل قوي في المنطقة (الزنكي)، جاء دور إجراء بعض التغييرات الجذرية داخل الهيئة، ما سيخلق صدامات كان إحداها سيقسم التنظيم إلى شقين، الأول مع الجولاني والآخر يرفض الإجراءات الجديدة التي أدت إلى وقف العمل بمعظم القناعات الجهادية السابقة.
نهاية كانون الثاني أصدرت "لجنة الإشراف والمتابعة العليا" في الهيئة قراراً منعت فيه وسائل الإعلام العامة والشخصية التابعة لها من إصدار الفتاوى والأحكام قبل اعتماد "المجلس الشرعي العام" لفتوى معينة، وخصوصاً في "مسائل النوازل"، كما حظرت الارتجال الشخصي في التعليق على أحداث ميدانية أو سياسية داخلية أو خارجية. كان هذا الأمر بمثابة إسكات جميع من يقف ضد المشروع الجديد، ومن يعترض سيفصل ولن يعتبر جزءاً من "الجماعة"، وهذا ما يريده الجولاني الذي استخدم سابقاً بعض الأشخاص ذوي التأثير الكبير في حشد صفوف المقاتلين ضد النظام وفي الصراع مع الفصائل، مثل أبو اليقظان المصري الذي أعلن انشقاقه عن الهيئة بعد عدة جلسات عقدت معه لحثه على ضرورة التزامه بالضوابط الإعلامية للجماعة.
جاء هذا الانشقاق بمثابة الخدمة المجانية للجولاني، كون المصري ليس مناسباً ليكون من رجال مشروعه الجديد، لاسيما وأنه تورط في فتاوى كثيرة أهمها "فتوى القتل في الرأس" التي اشتهر بها المصري، حتى قرنت باسمه بين الناس وفي وسائل الإعلام. لكن أبرز الانشقاقات التي جرت كانت بتخطيط عدد من القادة ذوي المكانة المرموقة في الهيئة مثل "أبو مالك التلي"، وقتها كان التنظيم مهدداً بالانقسام لولا تدخل "اليد اليمنى" للجولاني أبو مارية القحطاني، وعمله على إصلاح الموقف، ليعدل المنشقون عن موقفهم بعد ذلك لكن على مضض.
بعد كل هذه الإجراءات الجريئة جاء دور الإعلان عن التوجه الجديد، التوجه الذي يتماشى مع تعقيدات المرحلة، حيث يتغلب الذكاء السياسي على الاتباع الكامل للمنهج، ويتم التغاضي بمرونة كافية عن جميع العوائق التي تقف في وجه تطبيق هذا المشروع. ففي تصريح الجولاني الصادم "حزب العُمال الكردستاني (PKK) عدو للثورة السورية، ويستولي على مناطق فيها عدد كبير من العرب السنة، وهم عشائرنا وأبناؤهم يقاتلون معنا، لذلك نرى مِن الضرورة إزالة هذا الحزب، لذا نحن مع التوجه لتحرير منطقة شرق الفرات"، تبدلت حتى المصطلحات التي كانت تستخدم سابقاً، (pkk) عدو للشعب السوري بدلاً عن كونه مرتداً يجب قتاله، والجهاد الشامي استبدل بالثورة السورية.
في مرحلته الجديدة سعى الجولاني لتقديم صورة جديدة عنه، إذ لم يعد يرغب بالمزيد من التخفي والعمل بعيداً عن "الحاضنة"، لذلك قام بعدة مؤتمرات صحفية بحضور عدد من النشطاء والصحفيين. وفي تموز 2019 فصلت تحرير الشام الشرعي أبو شعيب المصري (طلحة الميسر) بسبب عدم التزامه بسياسة الهيئة، على أن قادة الهيئة لم يكتفوا بفصل المصري، بل إحالة "ما يتعلق بكلامه على هيئة تحرير الشام إلى القضاء المختص".
النسخة الجديدة لمشروع الجولاني تزامنت مع نسخة جديدة للجولاني نفسه، إذ تبدل الأمير الفاتح الحالم بدخول دمشق بعد تحريرها من النظام على فرس أبيض مرتدياً اللباس الشامي التقليدي، وصارت استذكاراً محضاً للماضي "تجربة صلاح الدين الأيوبي"، الذي قضى على خصومه ومناوئيه ليتفرغ بعد ذلك لمكافحة الغزو الصليبي وفتح بيت المقدس، بينما كانت القصة لا تبارح لسان الجولاني وشرعييه خاصة عبد الرحيم عطون، الذي كان يبشّر بفتح دمشق ثم فتح بيت المقدس خلال صراع الهيئة ضد الفصائل.
الشخصية الجديدة بدت "محنكة" بشكل واضح، لا فتاوى ردة ضد الفصائل أو الجيش الوطني أو حتى الأتراك، الطموحات الحالمة مثل فتح بيت المقدس أو روما لم تعد في الحسبان، بل يقتصر الأمر اليوم على التفاخر بالقوة التنظيمية للهيئة، إذ بإمكان الجولاني "شن أي معركة عن طريق اللاسلكي فقط"، كما أن الصراع الفصائلي انتهى و"علينا توحيد الصف مع الإخوة في جميع الفصائل مع توجيه الشكر للأتراك الذين يبذلون جهودهم لمساعدة الثورة السورية".