«الثورات في كل الحكايا لا تنتحر»

بعدسة فادي الشامي - خاص عين المدينة

هي الرسائل من يمدّ يده للمصافحة بقوة. هي تلك الفكرة الأخيرة التي تخطر في بال أحدهم وهو يعيش أقسى لحظاته، لعلّه أراد لنا أن لا نتخيل المشهد كما يحلو لنا، نحن حين غدونا كلنا كتّاباً، وانعدم فعل القراءة والإنصات. وحين مات ساعي البريد في الغوطة، واستخدمت دراجته الهوائية للانطلاق مع الفجر للبحث عن فرن خبز. وتحوّل الأطفال من هواية جمع الطوابع إلى البحث عن فسحة خارج الأقبية، حتى لو كانت درجاً في مبنى، أمام صراخ كبار السن بالإنصات. لا لشيء مهمّ هذه المرة، ولكن لمعرفة وجهة الطائرة الجديدة المنطلقة من حميميم.

أمام ما يصلنا من الغوطة المحاصرة، والتي تعاني هجمة بربرية لإنهاء الحياة فيها وتهجير أهلها، وبمقارنة بسيطة بين ما يحدث الآن، وما حدث في حلب منذ سنة ونيّف، مع كثرة الحديث عن أوجه التشابه والاختلاف، وجدَ كثير من أهل الغوطة طريقهم. فلم يبق من حلب إلّا حكايات أهلها الدفينة، ورسائل كتبت على الجدران، فحوّلوا ما يعيشونه لسرديات يومية، بلغة عامية بسيطة. وبإحساس يتعاظم في الوقوف على العادي في حياتهم. كانت الرسائل واضحة، وكان لها أن تعيش وتبقى.

في كلّ مرة يكتشف فيها العالم أثراً لجنديّ على شكل رسالة مخبأة في زاوية ما، قد تكون رسائل حب، كتلك التي اكتشفت في إسبانيا (من بيدرو إلى ماريا) يطلب من رفاق سلاحه إيصالها، أو تلك التي اكتشفت كرسالة حب من جندي بريطاني لابنة صاحب الفندق، أو تلك الرسالة من سوري لاجئ تركها في جزيرة ماسوس اليونانية، وهو يحاول الهرب من بلاد الأولمب، كانت الصحافة تصدّرها في صفحاتها الأولى، ويتلقفها القراء كحالة أسطورية. الجنود قالوا في رسائلهم أن ذلك البوح بالكلمات هو ما يساعدهم على الحياة، وأن الرسائل التي يتلقونها كانت تنقلهم للعيش في عوالم مرسليها، كانوا يحتاجون، إذن وبحق، للحياة من خلالهم.

اليوميات التي نقلها ناشطو الغوطة، وابتدؤوها بعدم الاعتذار عن اللغة العامية، وصلتْ هذه المرة لتخبرنا أن الغوطة انتصرت. فهم ليسوا بحاجة لشركات علاقات عامة أو تسويق، ليتم التواصل بين المخلصين في الداخل و إخوانهم مخلصي الخارج. هم فقط يحتاجون لأن ننقل كلماتهم ثم نؤمن بها، على حد قولهم.

وأنت تقلب صفحاتهم تقف في يوم كامل على تلك التناقضات التي يعيشونها، بداية تشعر بالعجز، تكتفي بالدعاء والحوقلة، ثم يتحول الأمر إلى انتظار لتلك الرسائل، تعطيك جرعة من الحياة والبكاء والابتسامة والأمل معاً. «صباحاً لا تحتاج إلى صوت منبه كي تصحو، صوت الطائرات الجديدة هو من يقوم بدور المنبه»، تخبرك إحدى الناشطات على صفحتها، تلتقط أنفاسك لتكمل «في ناس بتموت زعبرة وفي ناس بتموت مشان شي مستاهل.. والواحد ميت ميت بقى ليش يموت زعبرة»، تُحاول أن تبقى قيد القراءة، يَدخل إلى الكلمات ظرف دمشقي حين تبحث الكاتبة عن باب الرجا، لتعدّ أبواب دمشق، ثم تضحك للقراءة العجولة، لم يكن إلّا دعاء موجّهاً إلى السماء. تسرق منك ابتسامة أخرى رسالة طريفة عن «كيف تحمي نفسك من القصف»، غريب ذلك التماهي مع فكرة الموت. ثلاثة طرق للحماية تختلف بحسب نوع القذائف، وإن صدف أن اجتمعت معاً كما يحصل غالباً «فهون بقى بتبقى قاعد بمحلك وين ما كنت، وبتتشاهد وبتستنى. متت بيكون الله يرحمك، ما صرلك شي بتدعي للناس يلي نزل عندهم، وبتكمل حياتك عادي». ساعات تمرّ وأنت تنتظر ما سيحدث، يخبرك الفيس بوك بإشعار «وواقفة تحت السما لألقط شبكة، وحاسة حالي خايفة اكتب ليكون آخر شي بكتبو بحياتي..عم أحكي مع ناس تعرفت عليهم ع الفيس بيردو الروح بحكياتهم وتشجيعهم. وياريت الشحن ما يخلص والحديث يصير، كيفكم وشو ح تطبخوا اليوم وايمت ح تزورونا... مو الله يحميكم وديرو بالكن ع حالكن والقصف كتير وبيجوز نموت!».

في الظهيرة هناك من يُخبرنا عن طفلته التي تلعب تحت أشعة الشمس، كان يحاول سؤالنا، كيف يمكن أن يُخبرها أن هناك في السماء من يحلّق ليسرق ابتسامتها؟ آخرٌ كان يعدّ أنفاس «الطفلة آية»، مرّة أخرى توقف قلبها، ماتت.

مساء يكون الحديث عن الأقبية التي لا تصلح للنوم وحكايات الآباء لأطفالهم، واحتضانهم لهم. أنين الأطفال وتعبهم وجوعهم، يمسحون رؤوسهم ويحاكون مصعب النميري الذي قال قبل أعوام «لا أريد أن أنجب الأولاد.. سيُغلق الباب على أصابعهم ذات مرة» يخبرونه أن «يا مصعب قبل حين قريب، خرجت أم أمير

تحمل أولادها الجياع إلى السوق، فعادت موشحةً بالدم والبارود، و بين يديها جثّة طفل كانت تهذي وتتمتم: «لقد مات ولدي جائعاً.. لقد مات ولدي جائعاً» والدمع يرسم نهراً من الحزن على وجهها المُغْبَر!». هناك رسائل دائمة لله، «شكراً يا الله لأنك معنا»، ورسائل أخرى لنا «إن لم يكن لديك أمل فدعنا نأمل»، ورسائل للعالم «لا نريد هدنة طويلة.. نريد فقط وقتاً بسيطاً لندفن شهدائنا»، ورسائل للغزاة «عبثاً تحاول لا فناء لثائر» ورسائل لهم «كأبطال ( ملاذكرد ) يكادون يلبسون أكفانهم تحت ثيابهم في كل حين.. استصحاباً لأسباب الرحيل»، لأن الأرض (من غير هؤلاء) ستبدو موحشةً جداً، و(بهم) لن تبقى على قبحها الذي بَلغته.

الحياة لفكرة ربما يكون أقسى من الموت لأجلها. بين شبان يقفون اليوم في وجه الموت الذي اختاروه، وآخرين يحملون إصرارهم على المضي في ثورتهم وإيمانهم بها، تترك رسائل الغوطة لنا ما نقتات عليه للبقاء.