تصادف في هذا الشهر ذكرى مجزرة حماة، التي بدأت في 2 شباط 1982، واستمرّت سبعةً وعشرين يوماً، وسقط فيها عشرات ألوف الشهداء. وفي هذه الأيام لا يسعنا إلا استذكار هذه الجريمة الوحشيّة، التي لو عوقب عليها نظام الأسد لما اضطررنا إلى دفع أثمانٍ أشدّ لاقتلاع شجرته الخبيثة من جذورها الآن. نقلّب صفحاتٍ من هذه المجزرة، من خلال هذا الكتاب الذي صدر بعدها بعام.
ففي ليلة ثلاثاءٍ ماطرةٍ بدأت قوّات سرايا الدفاع والمخابرات العسكريّة هجومها على حيّ البارودية وسط المدينة، ثم آزرتها القوّات الخاصة والإنزالات من الحوامات، والرمي بالمدافع وراجمات الصواريخ والدبابات على الأحياء السكنية والمساجد، التي ما لم يهدم منها كلياً تمّ قصف مئذنته بشكلٍ مقصـــود، حتى لم تعد تُرى في المدينة مئذنةٌ سليمةٌ واحدةٌ إثر السيطرة عليها في نهاية هذه الأيام الدامية. ومنذ اليوم الثالث للاشتباكات بدأت القوات الغازية بارتكاب المجازر الجماعية، في حيّ جنوب الملعب، الذي كان حياً حديث التخطيط لا يتيح للمقاتلين التمترس فلم يوجدوا فيه أصلاً، فدخلت قوات الأسد دون أيّة مقاومة، ولكنها جمعت سكان الحيّ الهادئ باستدعائهم بالميكروفونات، ولما اطمأنوا إلى أن المطلوب فقط تحذيرهم من المشاركة في العمليات العســكرية، وزاد عددهم، بدأت حفــــلة الإهانات والتعذيب، فملحــــمة الرصــاص التي لم تبقي أحداً من السكان المتجمعين حياً. وصارت هذه سنّة هذه القوات في كلّ حيٍّ تسيطر عليه تقريباً، تجــمع رجاله ـ في الحدّ الأدنى ـ وترصفهم على الحائط وتطلق عليهم النار! وإذا كان الضحايا قد مضوا إلى ربهم فما حاجتهم إلى متاع الدنيا؟ وهنا كان لقوات "النظام" وظيفةٌ أخسّ وأكثر انحــــطاطاً، وهي نهب البــــوت والمحلات وتحميلها في السيارات العسكرية، بالتوازي مع المعارك الدائرة. ويروى أن هذه القوات قد حمّلت من السوق الطويل وحده ـ وهو السوق التقليديّ الذي يناظر سوق الحميدية الدمشقيّ ـ ستين شاحنة، قبل أن يأمر الضابط بإعدام الأهالي المساكين الذين أجبرهم على هذه المهمة، ثم بإحراق المحالّ التي صارت فارغة! وإذا كان التوجــــه الانتقامـــــيّ والإجراميّ لدى قوّات النظام العسكريّة هو نحو القتل الجماعيّ، فقد تـــضارب هذا مع توجّه أجهزة الأمن التي كانت تفضّل الحصـــول على بعض المعتقلــــين لاستجوابهم والحصول على معلوماتٍ عن شبكات المقاومة وتمركزها، مما أدّى إلى مفارقاتٍ سوداء، كاحتجاج العقيد يحيى زيدان، رئيس فرع الأمن العسكريّ، على الإعدامات المباشرة التي تفوّت عليه فرص العثور على خيوطٍ جديدةٍ في التحقيق، ثم ورود الأمر من "القيادة الحكيمة" بإعطائه حصةً من الأسرى ليحقّق معهم في سجونٍ مرتجلةٍ ضاقت على قاطنيها. لكن شهية المقدّم علي ديب، قائد قوّات سرايا الدفاع المشاركة، للقتل كانت أقوى فيما يبدو، ففي الأيام الأخيرة، وعندما تمّ اعتقال 1500 شخصٍ من منازلهم بهدف التحقيق، ومنهم مفتي المدينة ورئيس جمعية علمائها وعددٌ من المشايخ وأساتذة الشريعة، اختفى هؤلاء إلى الأبد، وقيل إنه تمّ دفنهم في مقبرةٍ جماعيةٍ واحدةٍ في ريف حماة.
أما من أسعفه الحظ بأن يكون معتقلاً بالفعل، في تجمعاتٍ استخدمت لهذا الغرض في مدارس ومعامل وثكناتٍ عسكرية، فقد عانى من ظروفٍ غير قابلة للتصور من التعذيب الوحشيّ وندرة الغذاء والماء، والاستهانة الكاملة بالحياة. فقضى الكثير من المعتقلين تحت هذه الظروف، ونقل بعضهم إلى السجون المعتمدة للنظام، كسجن تدمر، وأفرج عن الباقين. وبالتوازي مع كلّ ذلك، كانت قوات الأمن في باقي المدن السورية، بعد استتبّ لها الوضع منذ أشهر، إثر خفوت المواجهات الدامية، مطلقة اليد في الاشتباه بأي حمويّ، سواءً كان ضابطاً في الجيش أو مجنداً أو موظفاً أو طالباً جامعياً، لمجرّد انتمائه إلى هذه المدينة، التي لا بدّ وأنه يتعاطف مع الإرهابيين من أهلها! هل يذكّرنا كلّ ذلك بشيء؟ أم هل يذكّرنا كلّ ما يجري الآن بما حدث في حماة عام 1982؟!!!