ليست هذه أوّل مرّةٍ يقسم فيها رأسُ النظام الكيماوي السوريينَ بين أخيار وأشرار من وجهة نظره، "وطنيين" و"خونة" باللغة الأكثر شفافية. سبق له وأعلن، في ربيع العام 2012، أنه يكتفي بتأييد قسم من "الشعب السوري" ولا يطمح إلى إرضاء الجميع، لأن ذلك غير ممكن. لكنه دفع الأمر، هذه المرّة، إلى أقصاه بالتصريح عن أن "الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جنسيته أو جواز سفره، بل لمن يحميه".
لطالما كان الأمر هكذا، على أيّ حال. لطالما كان معيار الوطنية هو الولاء للنظام. عاش الكثير من السوريين حياتهم كلها غرباء في بلدهم، مشكوكاً في وطنيتهم، ليس لأنهم معارضين في جميع الحالات، فهؤلاء كانوا قلة قليلة دائماً بسبب الكلفة المرتفعة لمعارضة النظام علناً.. بل كذلك لأنهم مهمّشون بلا سند في السلطة التي دأبت على توزيع المنافع على الأتباع والموالين، إلى جانب صكوك الوطنية. فكان حلم ملايين السوريين، طوال حكم بيت الأسد، هو الحصول على عقد عملٍ في بلدان الخليج النفطية أو في ليبيا. كان هذا حلم الكادر التعليميّ والمهندسين والأطباء والعمال وغيرها من الاختصاصات. أما الأقل طموحاً فقد كانت وجهتهم لبنان حيث الأعمال التي لا تتطلب تعليماً أو تدريباً خاصاً كالبستنة أو أعمال البناء أو ما في مستوى ذلك.
هذه التفاصيل التي يعرفها كل السوريين، ضروريٌّ أن نذكرها هنا للكلام عن "الوطنية". واضح من الأمثلة السابقة أن "الوطن" لم يكن يوماً لجميع من ولدوا على الأرض السورية وعاشوا حياتهم في مدنها وقراها. هناك ملايين السوريين ممن ضاقت بهم سبل العيش فبحثوا عن أوطان بديلة، سواء بصورة مؤقتة (سنوات) أو دائمة. أما خيرات البلد فهي للطغمة الحاكمة وأجهزتها الأمنية وأتباعها ومن تختارهم من الموالين. كان من غير الممكن أن يبرز صناعي أو تاجر أو رجل أعمال وتزدهر أعماله ما لم يخضع لفحص ولاء وينال رضى النظام وأجهزته الأمنية، وما لم يشارك ضباطاً في أرباحه. وإلى جانب المراقبة الأمنية الدقيقة للعمالة في مؤسسات الدولة والقطاع العام، كان القطاع الخاص أيضاً تحت رقابة وابتزاز دائمين، بما في ذلك القطاع غير المنظم أو غير القانوني. مثال ذلك دوريات فروع المخابرات التي كانت تقوم بـ"زيارة" مكاتب التعليم غير المرخصة التي تقدم الدورات المأجورة للطلاب. وبدلاً من إغلاقها، كما يقضي القانون، كانوا يحصلون على الخوّة وينصرفون، من غير أن يشكل التزام المكتب بدفع الخوّة أي ضمانة لعدم إغلاقه أو محاسبة القائمين عليه أمام القضاء. لم يكن هذا مجرد شكل من أشكال الفساد الذي لا تخلو منه دولة في العالم، بل جزءاً من عملية التطويع والإذلال المنظم للرعية؛ كسر رأسهم وعينهم بشتى الوسائل ومنها نظام الخوّة.
يمكننا إذن الحديث عن ملايين السوريين "اللا وطنيين"؛ إما بسبب طرد النظام لهم من جنة الوطنية لأنهم معارضون له علناً، أو بسبب شعورهم الذاتيّ بأن الوطن ليس لهم بل هو لغيرهم، فيبحثون عن أوطان بديلة تقدم لهم ما يحفظ الحد الأدنى من الشعور بالكرامة. مع أن كرامة الباحث عن رزقه في بلاد غريبة ليست بالأمر البديهي، وخاصة في البلدان النفطية التي يتشاوف سكانها على السوريين والفلسطينيين والمصريين وكثيرٍ ممن يعملون عندهم. ومع ذلك ارتضى السوري أن يعمل في تلك البلاد التي تذله، مفضلاً ذلك على مذلته في بلده.
"الوطن" في الأصل مفهوم مثقل بالتحيزات الإيديولوجية، بخلاف مفهوم الدولة الذي يمكن الاتفاق على تعريفٍ موضوعيٍّ له. الانتماء إلى الدولة انتماءٌ سياسيٌّ من المفترض أن يقوم على عقدٍ اجتماعيٍّ هو الدستور، في حين أن الانتماء إلى الوطن انتماءٌ ثقافيٌّ يرتبط بشبكة معقدة من عناصر الثقافة المحلية كاللغة واللهجة والعادات وأنماط الحياة في المأكل والملبس وغيرها من مظاهر ثقافة المجتمع، وعناصر المكان كالحارة والقرية والمدينة. من هذا المنظور يحسن تسمية هذا الكيان بالموطن أو البلد بدلاً من الوطن، لارتباط هذا الأخير بحمولة إيديولوجية قوية، ليس في سوريا والبلدان المشابهة فقط، بل كذلك في جميع بلدان العالم القائمة على فكرة "الدولة – الأمة"، هذا الكيان الحديث جداً في التاريخ العالمي وبدأنا نشهد تجاوزه في العقود الأخيرة. "الوطن" و"الدفاع عن الوطن" و"الموت في سبيل الوطن" هي مفاهيم مترابطة أوجدها الحكام والطبقات الحاكمة لتيسير قيادة المحكومين وتأبيدها.
الوطن وطنهم دائماً وفي كل مكان.
أما وطننا فهو حريتنا وكرامتنا.