الحلقة الأخيرة
(مادةٌ مأخوذةٌ من دراسةٍ عن النفط في المحافظة، منذ خروجه ومنشآته عن سيطرة النظام وحتى الآن. أعدّها فريقٌ من الباحثين. صدرت مؤخراً عن "عين المدينة")
بــئــر الــمــزعـــل
(بورتريه)
لم تُظهر عائلة المزعل، المقيمة في قرية الحريجي، 60 كم شمال شرق مدينة دير الزور، اهتماماً يذكر ببئر نفطٍ يقع ضمن الأرض المملوكة لها، في صيف عام 2012. لكن تنازع أطرافٍ أخرى على هذا البئر أيقظ شهوة التملك لديها خريف ذلك العام.
بدأت الحكاية بعبث ستة شبانٍّ بالبئر بهدف بيع النفط المتسرّب من صماماته، مما أثار انتباه جبهة النصرة التي طردتهم وسارعت إلى الاستيلاء عليه. الأمر الذي أزعج بعض أقرباء المزعل في القرى القريبة، رغم تمتع معظمهم بـ«آباره الخاصّة». فاندفع سليطح، من قرية النملية، مطالباً النصرة بحصّةٍ من الواردات لكنها رفضت، فأحرق البئر نكايةً بالجبهة التي ردّت بهجومٍ على النملية أسفر عن مقتل أحد عناصرها، لتنسحب بعد ذلك بتأثير موقفٍ حكيمٍ من أبو مصعب، عمّ القتيل وأحد قادة النصرة البارزين، الذي عدّ المقتول «ابناً لجبهة النصرة. وهي التي ستنتقم له في الوقت الذي تراه مناسباً». في موقفه هذا، حرص أبو مصعب على تماسك جبهة النصرة، نظراً لانتماء كثيرٍ من مقاتليها إلى عشيرة البوكامل –في مدينة الشحيل على وجه الخصوص- التي ينتمي إليها كذلك كلٌّ من القاتل والمقتول، فآثر تهدئة النزاع درءاً للفتنة.
كانت النيران ما تزال مشتعلةً في البئر حين قرّرت عائلة المزعل أن تأخذ زمام المبادرة. فخاضت أولاً مفاوضاتها الخاصّة مع سماسرة شركة الفرات للنفط، وتوصّلت معهم إلى اتفاقٍ يقضي بأن تدفع العائلة مبلغ 18 مليون ليرةٍ مقابل أن ترسل الشركة فريقاً فنياً لإخماد الحريق. لتبدأ العائلة بعد ذلك رحلتها مع البئر الذي اشتهر باسمها، كحال معظم آبار نفط دير الزور.
منذ ذلك الوقت، استقرّ إنتاج البئر على معدّل 1800 – 2000 برميل يومياً. واعتمد توزيع العائدات على الأسر المنتمية إلى العائلة على عدد أفراد كلّ أسرةٍ من الذكور والإناث. وبلغ متوسّط نصيب الفرد 4 آلاف ليرةٍ أسبوعياً (45 دولاراً وقتها). وهو مبلغٌ كبيرٌ في الحريجي التي صُنّفت، في دراسةٍ حكوميةٍ سابقةٍ، ضمن أفقر 13 قريةً في المحافظة[1]. ورغم الحاجة رفضت بعض الأسر استلام أية أموالٍ من عائدات البئر، بتأثير الرأي الدينيّ الذي يحرّم الاستفادة الخاصّة من النفط. وفي موقفٍ مشابهٍ، رفض أبو خطّاب المزعل[2]، القائد العسكريّ لكتيبة شيخ الإسلام، ثم كتائب المرابطين، التي ينتمي إليها معظم أبناء العائلة المنخرطين في العمل المسلح، تسلّم أيّ مبلغٍ من واردات البئر، رغم حاجة الكتائب الماسّة إلى الذخيرة والسلاح في معاركها مع قوّات الأسد على جبهتي حي العمال والرصافة في مدينة دير الزور.
العائلة تسلّم بئرها
مع بداية عام 2013، وبتأثيرٍ من شبّان المزعل المنتمين إلى كتائب المرابطين/ لواء الإسلام[3]، وبعد فتوى أصدرها المكتب الشرعيّ للواء –من غوطة دمشق- بجواز الاستفادة المشروطة من أموال النفط، بعد أن كانوا يتورّعون عن ذلك؛ واستجابةً للدعوات الملحّة التي أطلقتها شخصياتٌ دينيةٌ وعسكريةٌ داخل عشيرة البوكامل، كان أبرزها أبو معاذ حسين الهجر، الناشط السلفيّ والعضو السابق في الهيئة الشرعية العليا ثم الشرعية المركزية لاحقاً، وقائد تجمع كتائب الحق في الوقت ذاته، الذي حضّ أبناء عمومته المزعل على أن «يشكّلوا قدوة حسنة، ويكونوا أوّل من يسلم بئره للمنفعة العامة»؛ تخلت العائلة عن البئر شرط أن تتخلى العائلات والمجموعات العشائرية الأخرى عن آبارها خلال عشرة أيام.
أدارت لجنةٌ خاصّةٌ البئر بعد تسلّمه من المزعل. وقسّمت وارداته على التشكيلات العسكرية الرئيسية لعشيرة البوكامل، والمتمثلة في كلٍّ من جبهة النصرة، التي أخذت 8 حصصٍ، وكتائب المرابطين/ لواء الإسلام، 6 حصصٍ، ولواء مؤتة ولواء الإخلاص وتجمع كتائب الحق 4 حصصٍ لكلٍّ منها، ولواء جعفر الطيار حصّتين. كان عدد أفراد التشكيل المرابطين على جبهات القتال هو المعيار المعتمد لهذا التوزيع، الذي كان ظالماً بعض الشيء للواء جعفر الطيار، ولكن بسبب تشكيلته الواسعة التي تضمّ كتائب كثيرةً من خارج عشيرة البوكامل، كما أن بعضها كان مستولياً بدوره على آبار نفطٍ.
العائلة تستردّ البئر
نفد صبر المزعل بعد انقضاء مهلة العشرة أيام، ثم عشرةٍ أخرى، ثم شهرين دون أن يتحقق شرطهم بأن تسلّم العائلات الأخرى آبارها، بما فيها العائلات التي ينتمي إليها أغلب أعضاء تشكيلات الائتلاف المستفيد من البئر، مما دفعها إلى إعادة الاستيلاء عليه وتشغيله لصالحها من جديد.
سارت أحوال البئر على ما يرام خلال آذار ونيسان وجزءٍ من أيار 2013 تحت سيطرة العائلة، لولا المنغّصات التي شكلتها مطالبة عائلتي الدهش والزعال، الشقيقتين للمزعل[4]، بحصّةٍ لكلٍّ منهما. الأمر الذي رفضه المزعل، وخاضوا في سبيل ذلك سلسلةً من جلسات التحكيم العشائرية نجحوا خلالها في تثبيت «حقوقهم الحصرية» في واردات البئر، لأنه يقع فيما يمتلكون من الأرض. كانت كتائب المرابطون، خلال ذلك الوقت، تخوض معارك عنيفةً على جبهات القتال مع قوّات الأسد، وكانت في حاجةٍ ماسّةٍ إلى تمويل هذا القتال، فعرض قائدها العسكريّ أبو خطاب، ومن معه من أبناء المزعل، أن يستأجر البئر بمبلغ 4 ملايين ليرةٍ يومياً، تدفعها الكتائب للعائلة التي وافقت على ذلك. ويفصّل الطبيب علي المزعل، وهو ناشطٌ ثوريٌّ بارزٌ عمل في جوانب عدّةً صحّيةً وإغاثيةً وإدارية، طريقة توزيع الكتائب للواردات خلال مدّة الـ20 يوماً التي استأجرت خلالها البئر. إذ بلغت الواردات الصافية 22 مليون ليرةٍ، أعطيت 6 ملايين منها لكتائب فقيرةٍ من الجيش الحرّ، فيما أنفق الباقي على العمليات القتالية الخاصّة بالمرابطين، من شراء سلاحٍ وذخيرةٍ ودفع رواتب للمقاتلين[5] وغير ذلك من النفقات التي كان بينها مبالغ دفعت سراً لبعض الرجال المشاكسين من العائلة استرضاءً لهم مقابل أن يكفوا عن إثارة المتاعب[6]. ويؤكّد د. علي المزعل على الأثر الواضح والفعال لهذه الواردات في تحسين القدرات القتالية في معارك عدّةٍ خاضتها المرابطون ضد قوات الأسد. ولولا التطوّر الخطير، المتمثل في تصاعد صراع (المزعل-الدهش-الزعال)، لشكّلت تجربة استئجار المرابطون البئر ظاهرةً لافتةً، وخاصّةً مع المستوى العالي من الشفافية والنزاهة الذي أبداه ماليوهم في بيان مصير كل ليرةٍ أين أنفقت وأمام الجميع.
المزيد من الدماء
كان مفاجئاً للمزعل أن يشنّ أبناء الدهش هجوماً على البئر ويسيطروا عليه، ومفاجئةً كذلك السهولة التي تمّ بها ذلك، ومحرجاً أشدّ الإحراج لأبو خطّاب أن يحدث ما حدث؛ فقرّرت العائلة أن تتولى زمام المبادرة مرّةً أخرى، وتشنّ هجوماً معاكساً لاسترداد البئر من الدهش. وكانت النتيجة سقوط قتيلين في صفوف الأخيرين، إضافةً إلى عشرات الجرحى من الجانبين. أسهم تدخل الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية، عبر ذراعها التنفيذية المتمثلة في جبهة النصرة وقوىً أخرى، في تهدئة الصراع إلى حدٍّ كبيرٍ ثم تجميده مؤقتاً، بعد ابتعاد المزعل عن المشهد لأنهم أصبحوا طرفاً مطلوباً للثأر. وقع البئر تحت سيطرة الهيئة الشرعية لمدة عشرة أشهرٍ تقريباً، ابتداءً من منتصف صيف 2013، تخللتها بعض النزاعات الخشنة بين الأطراف المنتمية إلى الهيئة، وخاصّةً بين جبهة النصرة ولواء مؤتة، ولكن دون وقوع ضحايا.
الشرعيّ الغاضب الذي أحرق البئر
أدّت المشاحنات بين الأطراف العشائرية والعسكرية المستفيدة من البئر، وعلى رأسها كلٌّ من جبهة النصرة ولواء مؤتة، إلى توقف البيع بانتظار أن يتفاهم الجانبان على صيغة تقاسم حصصٍ جديدةٍ، ترتفع فيها حصّة مؤتة والأطراف العائلية والعشائرية المرتبطة به على حساب النصرة والأطراف العائلية والعشائرية المرتبطة بها. وفي الخفاء نجح أبناء المزعل في عقد اتفاقاتٍ خاصّةٍ مع مؤتة، وهم المنتمون كذلك، مثل غالبية مقاتلي مؤتة، إلى فرع "الصالح الحمد"، أحد البطون الرئيسية لعشيرة البوكامل. اعتبر توقف البئر انتصاراً لمؤتة على جبهة النصرة، وكسراً لهيبتها لم يُطِقه مقاتلوها، مما هيأ الأجواء لتطوّراتٍ خطيرةٍ قد تعصف بالجسم العسكريّ لتشكيلات الهيئة الشرعية كلها.
بعد شهرين تقريباً من توقف عمليات البيع بسبب التناحر بين النصرة ومؤتة، هدّد شرعيٌّ غاضبٌ، على قبضات اللاسلكي، بإحراق البئر إن لم تتفق الأطراف المتنازعة خلال مهلةٍ محدّدة. انقضت المهلة ولم يعلن الطرفان عن توصلهما إلى أيّ اتفاق، لتندلع النيران يوم 21 شباط 2014 في بحيرة النفط إلى جانب البئر، وتحرق أكثر من 500 مليون ليرةٍ (3،35 مليون دولار وقتها تقريباً)، بحسب تقديرات أبناء المزعل لقيمة النفط المتجمّع بالتدفق الذاتيّ خلال مدّة توقف البيع، في واحدٍ من أكثر المشاهد جنوناً وطغياناً واستهتاراً.
وبعد أن أفرغ مشهد ألسنة اللهب طاقة الحمق من أنفس المتصارعين أذعنوا لقليلٍ من التعقل الذي نادى به بعضهم، فلجأوا إلى صياغة اتفاقية حصصٍ جديدةٍ، توسّعت فيها دائرة المستفيدين داخل عشيرة البوكامل، وخاصّةً منهم أبناء القرى المنتشرة على نهر الخابور. أعيد تشغيل البئر بناءً على هذا الاتفاق الذي استمرّ العمل بموجبه إلى أن قطع تنظيم «الدولة الإسلامية» طرق تجارة النفط إلى محافظة حلب والشمال السوريّ، قبل أن يجتاح المحافظة كلها في حزيران وتموز 2014.
[1] - دراسةٌ أعدتها مديرية التخطيط في دير الزور عام 2009، شملت 128 قريةً في المحافظة.
[2] - أسامة رمضان المزعل: كان صيدلانياً قبل الثورة، وترك مهنته بعد اندلاعها لينخرط في النشاط السلميّ ثم المسلح ويكون من أبرز القادة العسكريين في فصائل الجيش الحرّ في المحافظة. شكل سلوكه الواعي والمخلص نموذجاً ملهماً لأبناء عائلته ولكثيرٍ من مقاتلي الحرّ، قبل أن يلقى حتفه خلال المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية في نيسان 2014.
[3] - انضمّت كتائب المرابطين إلى لواء الإسلام المركزيّ في ريف دمشق في شهر تشرين أول 2012. وعملت تحت اسم هذا اللواء في دير الزور قبل أن يتشكّل جيش الإسلام كما مرّ سابقاً في هذا البحث.
[4] - تنتمي عائلات المزعل والدهش والزعال، المقيمة في قرية الحريجي، إضافةً إلى ستة عائلاتٍ أخرى تسكن مدينة الشحيل، إلى فرع العداد، المنتمي بدوره إلى فرع الصالح الحمد، أحد البطون الرئيسية لعشيرة البوكامل، التي تؤلف، مع عشيرتي «الكمال» و«الزامل» الشقيقتين لها، النواة الأساسية لقبيلة العكيدات، كبرى قبائل محافظة دير الزور.
[5] - من مبلغ مليون ليرة الذي حصلت عليه المرابطون، تمّ شراء: مضادّ طيران مع شاحنة دفعٍ رباعيٍّ حاملةٍ له، مدفع هاون مع قذائفه، 10 بنادق روسية، 5000 طلقة روسية، 3000 طلقة بي كي سي، حافلة صغيرة. وتوزيع رواتب لحوالي 100 مقاتلٍ من عناصر المرابطين.
[6] - من حديثٍ مع الدكتور علي المزعل.