للشهور الأولى من عمر الثورة طعمٌ لا ينساه من شارك فيها، طعمُ طزاجة الاحتجاجات وبزوغ الجرأة وانطلاق اللسان بعد طول انحباس، طعمُ التحرر والشجاعة العارية. ومن هنا يكاد يُجمع كلّ من أسهم في مراحل التظاهر السلميّ تلك، ومراوغة أجهزة الأمن والقمع، على أن تلك الأيّام قد ولّدت في أنفسهم «نفحاتٍ» من السموّ والنبل لم يسبق لهم أن شعروا بها، عزّزها ما شهده شهر رمضان الأول للثورة، في 2011، من تواترٍ في الخروج للتظاهر عقب صلاة التراويح من كلّ يوم، فضلاً عن الموعد الأبرز والثابت ظهيرة يوم الجمعة.
وإذا كان هذا هو زمان قصتنا، فإن مكانها علامةٌ بارزةٌ من علامات التظاهر في دمشق، وهو جامع «عبد الكريم الرفاعي» في حيّ كفر سوسة، الذي أصبح بؤرة الاحتجاجات في العاصمة بعد أن أحكمت أجهزة الأمن والشبّيحة سيطرتها على الجامع الأموي الكبير هناك، فكان أن خرجت أولى مظاهرات جامع الرفاعي في جمعة العزّة 25/3/2011، وتواترت أسبوعياً رغم الحصار الذي ضيّق عليه، والاعتقالات التي طالت الكثيرين من روّاده.
وبالإضافة إلى خصوصية الزمان والمكان، فإن راوي قصتنا محتجٌ نموذجي، كما يبدو من كتابه الذي
نشره على الإنترنت بعنوان «على حافّة الضوء»، باسمٍ مستعارٍ هو «وائل صلاح الدين». فالكاتب شابٌ غير مسيّس ولا مؤدلج، لم يدفعه إلى التظاهر سوى المبادئ العامة الأولى البسيطة للثورة، والتي تتلخّص في البحث عن الحريّة وطلب الكرامة ورفض الظلم. وهو لم يدوّن تجربته في تلك الليلة المثيرة بوصفها تجربةً خاصّة، بل إن جانباً هاماً من دلالتها يأتي من كونها تجربة «المتظاهر العادي»، يسوقها دون تزويقٍ ولا غايةٍ سوى الشهادة.
بدأت القصة مع الدعاء، ولا سيما عندما ذُكِر المعتقلون طلباً للإفراج عنهم، فارتجّ المكان بصوت الحشد مؤمّناً بحرقةٍ، واقتحم مزيجٌ من الحزن والأمل نفوس الجميع. وعقب الصلاة ارتفعت أصوات التكبير، إيذاناً ببدء التظاهر، وارتفعت الهتافات بسرعة، وبدأت الصفوف الأولى من المتظاهرين قرب الباب الخارجي للجامع تتعرض لقمع رجال الأمن وشبّيحتهم، بالقنابل الصوتية والدخانية، ثم بالرصاص المطاطيّ والحيّ. مما أدى إلى انكفاء هذه الصفوف إلى الداخل، وبدء تشكّل حلم كلّ المتظاهرين السوريين في تلك المرحلة، وهو «الاعتصام»، الذي كان أكثر ما حرصت السلطة على منعه مهما كان الثمن.
وهو ما حدث بالفعل، فما أن ارتدّ المتظاهرون إلى داخل المساحة المغلقة من الجامع حتى اقتحم رجال الأمن الباب الرئيسي والساحة المكشوفة والممر الخارجي، وصاروا على الأبواب الداخلية الخشبية والزجاجية، يحاولون تحطيمها والدخول لقمع المعتصمين واعتقالهم. ولكن هؤلاء عمدوا بسرعةٍ إلى تدعيم الأبواب بالخزائن الموجودة، بعد أن تأكدوا أنّ سلميّتهم، وقدسيّة المكان، لا تعني لمهاجميهم شيئاً.
احتدّ الوضع، ولاسيّما بعد أن سيطر المقتحمون على الطابق العلوي، وأخذوا يقذفون المعتصمين بكل ما استطاعوا من خزائن... نيونات الإضاءة... الكراسي... حاملات المصاحف... بل والمصاحف نفسها! وفجأة ينبعث صوت الشيخ «أسامة الرفاعي»، إمام الجامع وخطيبه، يهدّئ توتّر المشهد منبئاً بقدوم عميدٍ عرض على الموجودين الخروج بسلامٍ من الباب الخلفي. انقسمت الآراء بين من أنهكه الوضع وخشي حدوث مجزرة، وبين من لا يصدّق هذه المزاعم والتعهدات، وهو ما صحّ بالفعل عندما تعرّض الخارجون للضرب، الذي لم يسلم منه الشيخ أسامة نفسه، على مكانته المعروفة في دمشق.
ولكن، عندما حملت لهم الهواتف النقّالة لبقية الموجودين أن خبر اعتصامهم ظهر على قنواتٍ عربيةٍ معروفة، واستفزّ مظاهراتٍ خرجت عقب صلاة الصبح من عددٍ من مساجد دمشق وريفها، شعروا بأنهم قد انتصروا بالفعل. ولم يبقَ أخيراً إلا أن يستجيبوا لأسرهم التي تجمهرت خارج الجامع في فقاعةٍ متحرّكةٍ كبيرةٍ تتلقّف كلّ من يخرج، وتبتلعه داخلها حتى تبتعد به عن متناول الشبّيحة، الذين كانوا قد أوقعوا عشرات الجرحى، وشهيداً واحداً، هو «محمد العلبي».