حين أطبق تنظيم داعش الحصار على حيّي الجورة والقصور، ومنع الدخول والخروج منهما، منذ ما ينيف عن مئة يوم؛ أقدم على إغلاق المعابر المائية والطرق البرّية، ومحاسبة المغامرين الخارجين من المنطقة وتشديد القبضة عليهم. فأودت محاولات هرب الكثير من المدنيين بأصحابها على حواجزه.
ولأن مطار دير الزور ما زال المنفذ الرئيسيّ للنظام؛ لا يجد العاملون في أجهزته والمقرّبون منه صعوبةً في الخروج وحتى العودة من خلال طائراته، مما دفع الكثير من سكان الحيّين المحاصرين إلى محاولة الحصول على إذنٍ للسفر أملاً بالخلاص والنجاة بأرواحهم من جحيم الحصار، بالرغم من استحالة حدوث ذلك.
تقدّمت أم سعيد بطلبٍ للسفر إلى دمشق منذ أكثر من شهرين، ولم تأتِ الموافقة على سفرها بعد. تقول: لا أفكر بالنزوح من منطقتي، ولكنني مريضةٌ ومرضي يتطوّر نحو الأسوأ، وأنا بحاجةٍ إلى مراجعة طبيبي في دمشق. تقدّمت بطلبٍ للسفر بالطائرة، لكنهم لم يوافقوا بعد، رغم أن الرحلات مستمرّةٌ والسفر مؤمّنٌ لغيري ممن هم في غير حاجةٍ إليه كحاجتي. الطريق البرّية مقطوعةٌ وقد تأتي بأجلي إن حاولت. ماذا أفعل؟
وكما جرت عادة النظام، تحوّل موضوع تحصيل إذن السفر بالطائرة إلى تجارةٍ يتقاضى أزلامه لقاءها مبالغ ضخمةً لاستخراج هذا الإذن.
يقول سفيان: بعد وساطاتٍ كثيرةٍ، ودفع الكثير من المال (حوالي 100 ألف ليرة)، استطعتُ تدبّر الموافقة على السفر بالطائرة في وقتٍ أغلقت كلّ الأبواب في وجوهنا. لم يكن لديّ حلٌّ إلا دفع المال للذهاب والعودة محمّلاً ببعض المؤن لعائلتي التي لم تستطع الهرب من هذا الجحيم. فأولوياتنا كانت مرتبطةً بالمدارس وبجامعة الأولاد، رغم ما نكظم عليه وجعنا. ثم إنني لا أستطيع المخاطرة بالخروج بأسرتي، وهي كبيرةٌ نوعاً ما. مجرّد التفكير بأنني قد أخسر فرداً منها يثبتني في الأرض فلا أستطيع المجازفة.
وبالمقابل، لا يشتكي أبو عمران، وهو عضوٌ له وزنه في حزب البعث وكتائبه، من أية صعوباتٍ في السفر بالطائرة. ويقول: نجتمع في العاصمة كلّ أسبوعين، ولذلك أذهب إلى هناك مرّتين شهرياً جوّاً، وأتزوّد من أسواق دمشق بما تحتاجه أسرتي وأصدقائي. لكنه لم يخفِ انزعاجه من رائحة الجثث التي تطوف الطائرة، ومن تراصّ الموجودين على متنها.
وبالإضافة إلى ذلك تمنع قوّات النظام المدنيين من مغادرة الحيّين برّاً، وعلى الرغم من المخاطر، من خلال التشديد والملاحقة. تقول سعدية، وهي سيدةٌ من المنطقة: تحايلنا أنا وزوجي على عناصر الحاجز، وادّعينا أننا سنذهب إلى قرية البغيلية القريبة. كنا قد خطّطنا أن أبقى هناك ويذهب هو سباحةً إلى الضفة الأخرى ليأتي لنا ببعض المؤن. وحين وصلنا إلى بيت قريبٍ لنا هناك كان بعض الشباب يخرجون جثة شابٍّ سبح إلى الطرف الآخر فغرق. خفتُ على زوجي فعدنا أدراجنا نلوك وأطفالنا الجوع.
وتقول إيمان: منذ بداية حصارنا الخانق لم تغادر المنطقة إلا قلةٌ قليلةٌ لا تتجاوز 2% من السكان، ولعلهم غادروا لضرورةٍ قصوى ودفعوا الكثير. إن مجرّد التفكير بالخروج مخاطرة. فالجوع هنا، بل والموت، أهون من خروجٍ إلى مجهولٍ لا نعرف نتائجه. لم يساعدنا أحد. حتى المنظمات الإنسانية، التي تدّعي المساعدة، لم نرها.. ثم أين الطائرات المحمّلة بالمؤن؟ أم أنها فقط لأزلام النظام الذين يحصلون على ما يريدون ويسافرون؟
انعزل حيّا الجورة والقصور عن العالم الخارجيّ. وعانى، ولا يزال يعاني، أكثر من 350000 مدنيٍّ من الجوع والمرض، في وقتٍ انعدمت فيه مقوّمات الحياة كلها من ماءٍ وكهرباءٍ ووقودٍ وطعامٍ وأدوية. وتحوّل الخروج من المنطقة إلى حلمٍ يراود معظمهم في ظلّ منع النظام وتضييقه من جهة، ووحشية تنظيم داعش وغلّ عناصره من جهةٍ أخرى.. ليبقى مصير الناس مجهولاً.