معبر بستان القصر من الجانب المحرر
زاهر سحلول*
ترجمة وإعداد مأمون الحلبي عن مجلة الفورين بوليسي
في آخر يومٍ لمهمّتي في حلب طُلب مني أن أعاين طفلاً في الثالثة من العمر أصيب بطلقٍ ناريٍّ في الرأس من قبل قنّاصٍٍ. كان اسمه حمزة رمضان. كان قلبه يخفق لكنه لم يُظهر أية علامةٍ من علامات الحياة. قيل لي إن القنّاصين استهدفوا حمزة وأمه وأخته بينما كانوا يركضون عبر ممرٍّ يفصل الجانب الشرقيّ لحلب عن الجانب الغربيّ. أصبح هذا الشارع يُعرف بمعبر الموت.
القنّاصون المتمركزون على أسطح ثلاث مبانٍٍ بقبضة النظام حوّلوا المكان إلى أرضٍ للقتل. أم حمزة وأخته قتلتا على الفور. تم نقل الثلاثة بسرعةٍ إلى المشفى بسيارةٍ عابرة. منذ بدء المظاهرات الأولى في 2011 حاول النظام تصوير المعارضة على أنها متطرفة وإرهابية، متلاعباً بالمخاوف من القاعدة والجهاديين السائدة في الغرب. وقعت وسائل الإعلام الغربية في فخ النظام مصورةً النزاع كقتالٍ بين الحكومة والإرهابيين، وأحياناً مُسوّغةً ضمناً جرائم النظام ضد شعبه. لكن الواقع كما شاهدته أشد لؤماً بكثير. فحكومة الأسد تشنّ حرباً، ليس فقط ضد عدوٍّ مسلح، وإنما ضدّ شعبها أيضاً. كان هدفي من مهمتي الطبية خدمة ضحايا الحرب في تلك المدينة القديمة التي هي الآن نقطة تركز القصف الجويّ والبرّيّ. لم يكن بوسع أي قدرٍ من التدريب في التعامل مع الكوارث أن يكون قد حضّرني للواقع الفظيع للمشفى الذي زرته. أغلبية نزلاء مشفانا كانوا سكاناً محليين مصابين بشظايا من هجماتٍ بالبراميل المتفجّرة أو القصف العشوائي. لكن كثيرين، مثل حمزة، كانوا مدنيين تم استهدافهم مباشرةً وبأقسى طريقةٍ ممكنةٍ من قبل القنّاصين. استعمال القناصين يُكذّب دعايات النظام، فالقنّاصون يعرفون تماماً من يستهدفون ويعرفون إن كان الهدف طفلاً أو مقاتلاً. معظم الضحايا يموتون فوراً، أما من يبقون أحياءً فمن المرجّح أن يعانوا من إعاقاتٍ دائمة. يلعب القنّاصون دوراً هاماً في ميدان المعركة الحديث لأنّ التكنولوجيا الجديدة جعلت مهمة القتل عن بعدٍ أسهل بكثير. أثناء حرب البوسنة كان القنّاصون الصرب يقتلون المدنيين الذين كانوا
يحاولون الفرار من المدينة، وقد غطّت وسائل الإعلام العالمية تلك الحوادث بشكلٍ واسع. إلا أن قنّاصي سوريا، بخلاف نظرائهم الصرب، يعملون بعيداً عن رقابة وسائل الإعلام إلى حدٍّ كبير. فحلب ليست مثل سيراييفو من جهة إمكانية وصول الصحفيين إليها، وضحايا القنّاصين السوريين يلفتون القليل من الانتباه، لذا يعمل قنّاصو الاسد بحصانةٍ تامةٍ مستهدفين النساء والأطفال، ويقتلون فقط لنشر الخوف والكراهية والانتقام.
في بداية النزاع كان القنّاصون يستهدفون المدنيين كجزءٍ من إستراتيجية النظام لفضّ المظاهرات السلمية، مستخدماً الخوف الشديد ليثني الناس عن الانضمام إلى الحركة اللاعنفية. عندما نزل أهالي درعا إلى الشوارع ليطالبوا بإطلاق سراح الفتية الصغار كان القنّاصون بانتظارهم، فقتلوا أربعة محتجيّن وجرحوا عدداً كبيراً منهم، وكان القنّاصون أيضاً بانتظار المظاهرات الأولى في مدنٍ سوريةٍ أخرى. كان من الواضح للأطباء الذين عالجوا الضحايا أن الإستراتيجية قد تغيّرت لاحقاً: لم يعُد القناصون يرعبون السكان بالتهديد بالطلقات العشوائية فحسب، بل يتقصّدون التسبب بأذىً غير عكوسٍ أو بالموت. حكى لي أطباءٌ حلبيون قصصاً فظيعة تصور نماذج سادية في أهداف القناصين. لقد حوّل القنّاصون عمليات القتل إلى لهوٍ مقرف، فبعض مطلقي النار يلعبون ألعاباً متحدّين أنفسهم بأن يصيبوا شخصين برصاصة واحدة، أو يقومون باصطياد القطط والكلاب الشاردة. دافيد نوت، وهو جرّاحٌ عمل في مناطق حروب عديدة، أمضى خمسة أسابيعٍ في مشفانا وحكى للتايمز اللندنية أن القنّاصين كانوا يختارون التصويب إلى أجزاءٍ مختلفةٍ من أجساد المدنيين كل يوم. "من أول المصابين الوافدين في الصباح يمكن أن تعرف ما ستراه بقية اليوم" قال نوت. ويتذكر يوماً دخلت فيه المشفى امرأتان في مرحلة الحمل الأخيرة وقد أصيبتا برصاص القنّاصين. كلا الجنينين ماتا. في يومٍ آخر أصيبت 6 نسوةٍ حوامل بنيران القناصين. كانت النسوة جميعاً مصاباتٍ برصاصاتٍ اخترقت الرحم.
تقريبــاً كلّ طبـــيبٍ قابلتـــه في المشفى حكى لي عن أمٍّ حاولت العبور مع طفليها. عندما أسرعت ممسكةً بطفلٍ في كلّ يدٍ استهدف قنّاصٌ ابنها ذا الأربع سنواتٍ فقتله فوراً. بدأت تصرخ بألم. ثم أصابت رصاصةٌ ابنها ذا الثلاث سنوات وقتلته أيضاً. جلست المرأة بين جثتي ولديها منتظرةً أن يستهدفها القنّاص لكن هذا لم يحدث. لقد أبقى عليها لتعيش محرومةً من ولديها وليتملكها إحساسٌ بفراغٍ مؤلم؛ هذا أمرٌ فعله القنّاصون مع أمهاتٍ سورياتٍ كثيرات.
لقد نجح القنّاصون، والنظام الذي ينشرهم، في تحويل حركةٍ سلميةٍ من أجل ثورةٍ ديمقراطيةٍ إلى حربٍ أهلية، فزرعوا الخوف، وهجّروا عشرات آلاف المدنيين الفارّين بحثاً عن السلامة، وخلقوا الكراهية بين الجماعات العرقية والدينية، وسعّروا الطائفية، واجتذبوا التطرّف. لقد اغتالوا سوريا، التي تواجه مأساةً إنسانيّةً غير مسبوقة. إن حمزة، شأن الـ12000 طفل الذين قُتِلوا، ليس رقماً. لقد كان طفلاً يضجّ بالحياة، ومثل أيّ طفلٍ آخر، كان يلعب ويضحك ويبكي ويحلم. كان من الممكن أن يكبر فيصبح طبيباً أو محامياً، معلماً أو حتى رئيساً، لكن قنّاصاً حكومياً بلا قلبٍ انتزع منه تلك الفرصة. إن المذبحة عديمة الشفقة التي يبتلي بها النظام شعبه جريمةٌ نكراء يجب إيقافها.
* طبيبٌ سوريٌّ يعيش في الولايات المتحدة. جاء في عدة مهماتٍ طبيةٍ إلى سوريا ومخيمات اللاجئين في السنوات الثلاث الأخيرة.