مجموعة من "الدفاع الوطني" دير الزور
"يا هلا بربع الشرطة، أهلا بيكم... هذا بشار الأسد هالحاميكم"
هذا هو مطلع الأغنية التي اختارها عنصر المخابرات لتصدح عبر مكبر الصوت في مقصف كلية الآداب، قبل أن يشتري علبتي عصيرٍ ويخاطب بلهجة ساحلية عنصراً آخر يقف على الباب: "هي لعيونك وعيون الأسد".
كنا صامتين في حضور العنصر، فطاولتنا هي الأقرب إليه. لم تلتقِ، والحمد لله، عيني بعينه. فما زلت، رغم تردّدي المتواصل إلى الأحياء المحتلة من دير الزور، غير قادرٍ على النظر في عيون جنود الأسد، وغير قادرٍ على التطبيع معهم. كان صديقاي محمد و(ع) أفضل حالاً مني، فهما ساكنان دائمان في هذه الأحياء، تكيّفا مع مشاهد الاحتلال اليومية فيها. ابتسم (ع) مرتبكاً بعض الشيء وهو يسمع أغنية علي الديك كأنها شيءٌ غير مؤذٍ، وكأن استعراض عنصر المخابرات بين طلابٍ جامعيين وفرضه الأغنية عليهم مجرد مسألة ذوقٍ وخشونةٍ شبابيةٍ فقط. راح يقول، بعد ذهاب العنصر، إن الأغنية حلوةٌ وتدفع إلى الدبكة. وذكّرنا برحلةٍ طلابيةٍ إلى قلعة الحصن دبك خلالها لأول مرة في حياته: "كنا مبسوطين... وما أعرف شكون صار بعدين. الله يرجّع هذيك الأيام". (ع) ليس مؤيداً للنظام رغم شوقه لأيام ما قبل الثورة وتفاعله الزائف مع الأغنية، وليس مؤيداً للثورة أيضاً، هو ينتمي لما أسمّيه بـ"المؤلفة قلوبهم". وهؤلاء فئةٌ من الناس في أحياء الجورة والقصور وتوابعها، بعضهم نازحون إليها وبعضهم من سكانها الأصليين. كانوا متفرجين في بداية الثورة ثم مالوا إليها بعد انكسار هيبة النظام أمام حشود المتظاهرين الهائلة، ليميلوا بالعكس بعد دخول الجيش الأسديّ إلى دير الزور، ثم لينقموا على الثورة بعد أن باشر النظام حملة قصفٍ مستمرّةٍ بعد تحرير المدينة.
في سيارة (ع)، وفي طريق عودتنا القصير من الجامعة إلى "البلد"، أحببتُ أن أشاكسه انتقاماً لإعجابه السخيف بالأغنية. سألته إن كان شيءٌ في حياته أو حياة عائلته قد تخرّب، فهو على وشك التخرّج، وغلّة والده الطبيب من أجور الكشف على المرضى لم تنقص رغم انتقال عيادته من مركز المدينة - بعد تحريره - إلى مكانٍ آخر. فأجابني مستنكراً سؤالي بسؤال: "ليش منو قال لك إنو إحنا مبسوطين بهالوضع؟ ترى البلد كلها خربت ومستقبلها ضاع". وأشار إلى المقبرة بجانب الطريق، وهو يخفّف من سرعة السيارة لنتمكن من مشاهدة جنازةٍ تتألف من شاحنةٍ صغيرةٍ تحمل في صندوقها الخلفي تابوتاً يحيط به أربعة رجالٍ تتبعها سيارةٌ واحدةٌ فقط. وبحسب رواية (ع)، التي أكّدها محمد من المقعد الخلفي، هذه جنازة شابٍّ قُتل بقذيفةٍ عشوائيةٍ من القذائف التي يطلقها الجيش الحرّ باتجاه مراكز قوات الأسد فتخطئ هدفها في غالب الأحيان لتصيب شخصاً بريئاً.
على الحاجز المجاور لبناء أمن الدولة توقفت سيارتنا أمام تفتيشٍ سريعٍ ختمه الجندي بجملة: "الله معكم يا شباب"، التي رفعت من معنويات صديقيّ مؤلّفي القلب. فردّد الأول عبارةً تقليديةً عن اختلاف أسلوب الحاجز بحسب طباع القائد المناوب أو طباع العنصر الذي يفتش السيارات، وبرهن الثاني على نسبيّة التوحش بمثالٍ عن حاجز الضمير المرعب لأبناء دير الزور، حين مرّ هو نفسه بهذا الحاجز قادماً من دمشق قبل أيامٍ، فصعد ضابطٌ مؤدّبٌ - بالرغم من أنه علوي - ووبّخ جندياً "رقاوياً" كان يؤخّر الباص. يتذكر (ع) هو الآخر مثاله الخاص، عندما شاهد بأمّ عينيه عناصر زهر الدين يضربون عنصراً تابعاً لفراس العراقية من الدفاع الوطنيّ ويلقون به في "بوكاج" سيارتهم، عقوبةً على تحرّشه بفتاة.
وحواجزكم ليست أفضل من حواجز الدفاع الوطنيّ - يخاطبني (ع) - وهو يروي شائعاتٍ رائجةٍ في أوساط المؤلفة قلوبهم عن سرقة سياراتٍ وتشليح مسافرين وإذلال القادمين من الجورة والقصور إلى المناطق المحرّرة بحجة أنهم شبيحة. يتابع (ع): "ولا تسمع منهم إلا: "طفّي سيجارتك يا شيخ"، و"ليش رايح عالجورة يا شيخ؟". يقل لك طفّي سيجارتك يا شيخ وما يقول لحاله ليش يطفون علينا الكهربا كل ما رادو يكبرون البوقة من الغاز؟ واللي ما قدر يبوق صار يدوّر تسوية وضع". "شوف نصّ الجيش الحرّ قلب دفاع وطني بعد ما خربوا البلد. والاثنين حرّ ودفاع - ينبهني محمد - من ولاد البلد". فأنتبه إلى وسيلةٍ أخرى من وسائل مؤلفي القلوب في دفاعهم عن المحتلّ الغريب، بإحالة الشرور إلى "نفوسنا" وإلى كياناتٍ محلية.
جماعة المؤلفة قلوبهم من مختلف الطبقات، أغنياءٌ وفقراء ومتوسطو حال، متعلمون تعليماً رفيعاً وأميون، متدينون وغير متدينين. لكن ما يجمعهم هو الرغبة في الاستقرار بأية طريقةٍ وبأسرع وقت. وبما أن كفة الأسد راجحةٌ هذه الأيام فهم معه ليسحق الثورة كيفما كان. يحتفي المؤلفة قلوبهم بالأنباء المتداولة بين وحينٍ وآخر عن جرائم مزعومةٍ وحقيقيةٍ في المناطق المحرّرة. ويجمعهم كذلك تعلقهم بالكيانات الرسمية، رغم غطرستها عليهم، فهي ملجأهم النفسي في تبرؤهم من قذارة شبيحة الدفاع الوطنيّ.