مثل سلفه، كتاب بثينة شعبان «عشرة أعوام مع حافظ الأسد» (العدد الماضي)، يتناول كتاب «الرواية المفقودة» السياسة الخارجية لعهد الأسد، ومفاوضات السلام السورية الأمريكية الإسرائيلية، بشكلٍ أساسيٍّ. وقد صدر الكتاب، بمقدّمة تبجيليةٍ، عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة وبيروت، في كانون الثاني 2015.
وربما كانت الصدفة المحضة وراء نشر الكتابين في الوقت نفسه، لا سيما وأن كتاب الشرع كان جاهزاً للنشر منذ نيسان 2011، بحسب مقدّمة المركز، وتأخر صدوره بسبب «الأوضاع» في سورية؛ إلا أن التشابه بين مذكرات هذين المؤلفَين المتنافسَين من مساعدي الأسد كبيرٌ إلى درجةٍ تتجاوز المناصب والطبائع الشخصية، لتصل إلى صميم الخطاب البعثيّ المسيطر على المتن. ولذلك يبدو ما يمكن التقاطه من على هوامش السردية الرسمية أطرف وأكثر دلالةً وأهمية.
إذ ينقل لنا الشرع مشاهد من حكم يسار الحزب في الستينيات، تكشف عن درجاتٍ من الرعونة والحمق المؤذي، فقد كان خطاب القيادة القطرية بعد حركة 23 شباط يصرّ على أن الحزب «صار أكثر يساريةً وجسارةً من الاتحاد السوفياتي في مواجهة التهديدات الإمبريالية والصهيونية، وأنه ينتظر المعركة مع إسرائيل بفارغ الصبر». ولما حدثت هذه المعركة، عام 1967، فوجئ الشرع، الذي كان مديراً لأحد أقسام شركة الطيران السورية، وهو يشارك في وداع وزير الخارجية إبراهيم ماخوس لنظيره الليبيّ، بطائرة الضيف متفحّمةً في زاوية المطار، بعدما نالها ما نال الطيران السوريّ كله من تدميرٍ إسرائيليٍّ، وبالمذيع يقرأ نشرة الأخبار على شاشة التلفزيون وبندقية الكلاشينكوف على كتفه، وبوزير الداخلية محمد رباح الطويل يأمر، بُعيد انتهاء الحرب وإثر عودته من فييتنام، بحفر الخنادق في شوارع دمشق استعداداً للحرب الشعبية! هذه الحفريات التي لم يضطر أحدٌ إلى التخندق فيها بالطبع، بقدر ما سقط فيها بعض المارّة ليلاً. أما وزير الإعلام وعضو القيادة القطرية وقتها، محمد الزعبي، فقد كتب في جريدة الثورة مقالةً دعا فيها إلى «حَلف اليسار» لا القسم باليمين، وأهاب بالمواطنين أن يسيروا على الجانب الأيسر من الطريق لا الأيمن منه!
ومن هنا كان لا بدّ من «الانقلاب» الذي قام به حافظ الأسد عام 1970 (الحركة التصحيحية)، بعد أن كان يراقب «من علٍ» كلّ ما يحدث. وكان الشرع من الكوادر البعثية القليلة التي دعمت الأسد في انقلابه، ليرتقي بعد ذلك ببطءٍ بين مناصب السفير، فوزير دولةٍ للشؤون الخارجية، فوزيراً للخارجية منذ 1984، خلفاً وخصماً لدوداً لعبد الحليم خدّام.
ومنذ ذلك الحين يستعرض الشرع كثيراً من مفاصل السياسة الخارجية السورية؛ فسوى ملف مفاوضات السلام المركزيّ هناك العلاقات السورية العراقية الشائكة، ومثيلتها العلاقة المضطربة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومراقبة انهيار الاتحاد السوفياتي وبحث الأسد عن صيغةٍ جديدةٍ للتوازنات في الإقليم، ومشاركة القوّات السورية في حرب الخليج الثانية بهدف تحرير الكويت، بعد الدعم السياسيّ السوريّ، المغرّد خارج السرب العربيّ، لإيران إبان حربها مع العراق. وأطرافٍ من الملف اللبنانيّ، الذي يصرّح الشرع بعدم ميله إلى زواريبه، وبتفضيله أن تبقى خيوط اللعبة السورية في لبنان بيد خدام ومحالفيه داخل النظام.
ومن مجمل تفاصيل هذه الملفات تتضح معالم أمرين ثابتين؛ أولهما كون الشرع موظفاً بيروقراطياً متوسّط الإمكانات بالنسبة إلى كونه وزيراً للخارجية، حتى في عهد ديكتاتورٍ كالأسد. أما الأمر الثاني اللافت في أداء الأسد الأب فهو سماحه لبعض رجاله السياسيين المقرّبين بمساحةٍ محدودةٍ من الاجتهاد والتجريب، طالما يحدّد هو الإستراتيجية العامة بالأصل، وطالما يستطيع فرملة أيّ اجتهادٍ قد يسير في الطريق غير المواتي بكلمةٍ واحدة. ولعلّ هذا من معالم استرخاء الديكتاتورية واستشعارها لقوّتها وشمولها، بخلاف الديكتاتورية المهزوزة لابنه بشار، الذي أصرّ، بمدرسيةٍ وبإحساسٍ مستجدٍ بالحكم، على الإمساك بكلّ الملفات، وحصر كلّ القرارات الكبرى والصغرى بيده، حتى سقط منه كلّ شيءٍ وانهار البلد.
ومن هنا يمكن أن نفهم احتمال أن يشعر رجالٌ من الحرس القديم، كالشرع، بصبيانية قيادة بشار للبلاد وتسرّعها وهدرها للبناء المحكم من العلاقات الخارجية الذي عمل الأسد الأب على نسجه عبر السنوات. وما خطب بشار المتثاقفة والمملة في اجتماعات القمم العربية، ووصفه بعض أبرز القادة العرب بـ«أنصاف الرجال»، وتسليمه سوريا لبرنامج توسّع النفوذ الإيرانيّ، منذ ما قبل الثورة وحتى الآن، وبشكلٍ متصاعدٍ، إلا أدلةٌ على هذا الفشل. أما كتابنا هذا فيصل إلى لحظة توريث الأسد ويسكت عن الكلام المباح.