يمكن النظر إلى هجمات ليلة الجمعة 13\11\2015 في باريس على أنها "11 أيلول داعش"، كما هي 11 أيلول فرنسا.
إذ كان التنظيم الإرهابيّ الذي أعلن "دولة الخلافة"، قبل عامٍ ونصف، على مساحاتٍ واسعةٍ من العراق وسوريا، يركّز جلّ اهتمامه على توطيد سلطانه البربريّ على سكان هذه المناطق، وقضم مزيدٍ من الأراضي المجاورة، إن تمكن من ذلك، وكسب المزيد من المقاتلين المبايعين من مختلف أنحاء العالم، ومحاربة "العدوّ القريب" (وفقاً لقاموس الجهادية العالمية). ولكنه يبدو الآن، لأسبابٍ يمكن الجدال حولها، وقد بدأ مرحلةً جديدةً تتمثل في محاربة "العدوّ البعيد". فقد توعّد التنظيم في بيانه حول "غزوة باريس" بالقيام بمزيد من الاعتداءات في فرنسا وغيرها من "بلاد الكفار".
هذا نوعٌ من عودٍ على بدء نهج منظمة القاعدة في عهد مؤسّسها أسامة بن لادن، التي افتتحت القرن بغزوة نيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001، ثم توالت غزواتها في مدريد ولندن والمغرب وإسطنبول وغيرها من العواصم، انطلاقاً من أرضها "المحرّرة" في أفغانستان. وكان فرع القاعدة في اليمن وشبه الجزيرة العربية هو من تبنى الاعتداء الإرهابيّ الذي استهدف مجلة شارلي إيبدو في باريس، مطلع العام الجاري.
اعتداء أنقرة الانتحاريّ في العاشر من شهر تشرين الأول الماضي، وقبله اعتداء سروج جنوب تركيا، في شهر تموز، وديار بكر في مطلع حزيران العام الحاليّ؛ تختلف في حيثياتها عن اعتداءات باريس، من حيث أنها استهدفت جهةً سياسيةً بعينها: حزب الشعوب الديموقراطيّ– الواجهة السياسية التركية لحزب العمال الكردستانيّ الذي يقاتل فرعه السوريّ (PYD) تنظيم داعش في شمال سوريا وشمالها الشرقيّ، فضلاً عن أن الاعتداءات الثلاثة وقعت في جغرافيةٍ مجاورةٍ لـ"الدولة الإسلامية"، متداخلةٍ معها بعوامل كثيرة. في حين أن غزوة باريس استهدفت "عاصمة الرذيلة" في العالم كما جاء في بيان داعش، برموزها المتمثلة في المسارح والمطاعم والمقاهي وملاعب كرة القدم. ومن خلال هذه الرموز استهدفت الاعتداءات الدولة الفرنسية أب العلمانية الغربية وأمها، تلك الدولة التي "تحارب بطائراتها الدولة الإسلامية" كما سوّغ البيان.
لدينا، إذن، "دفاع عن النفس" من جهة، ومحاربة "الرذيلة والعلمانية الكافرة" من جهةٍ ثانية، كما يعلن بيان المنظمة الإرهابية التي تمتطي "الإسلام"، بعد تأويله بما يلائم غاياتها، أيديولوجيةً لتسويغ الحكم والحرب. هذا يعني حرباً مفتوحة على العالم بأسره، بغربه وشرقه، وشماله وجنوبه، ما دام هناك تحالفٌ من ستين دولةً عبر العالم، بقيادة الولايات المتحدة، يحارب "الدولة الإسلامية"، وما دامت كلّ مجتمعات العالم المعاصرة منغمسةً في "الرذيلة" وعلمانيةً كافرة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، وفقاً لمعايير داعش. هذا يعني نهاية الشعور بالأمان في أيّ مكانٍ في العالم، في الحواضر الغربية بصورةٍ خاصّة، ولكن ليس فيها وحدها. هذا ما ظهرت نتائجه سريعاً في باريس نفسها بعد أقلّ من يومين من ليلتها الطويلة الدامية، حين كانت إشاعةٌ كاذبةٌ عن وجود قنبلةٍ كافيةً لبثّ الهلع في ساحة الجمهورية المزدحمة. ما يعني تحقق أحد أهداف داعش من غزوة باريس: تحويل حياة الناس إلى كابوسٍ دائمٍ من الرعب، وإنتاج حالة طوارئ ترفع حريات الأفراد وحقوقهم على الرفّ كحال بلدان العالم الثالث.
هذا، على أيّ حال، ما أعلنه الرئيس الفرنسيّ كسياسة دولةٍ في حالة حرب: حال الطوارئ في الداخل الفرنسيّ وضرباتٌ جويةٌ انتقاميةٌ استهدفت مدينة الرقة بدعوى محاربة داعش. وكأن تجربة الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب منذ 14 عاماً لم تكن كافيةً لإدراك أن مشكلة الإرهاب أكثر تعقيداً من أن يتمّ حلها بالفظاظة العسكرية. خليةٌ نائمةٌ واحدةٌ يمكنها أن تحوّل أيّ عاصمةٍ إلى جحيمٍ في غضون ساعةٍ واحدة. وهذا ما لا تجدي معه الأساليب العسكرية مهما تطوّر السلاح والعتاد والتدريبات.
هل هي المصادفة وحدها أن مجزرة باريس المروّعة وقعت عشية اجتماع فيينا المخصّص لبحث سبل حلّ المشكلة السورية؟ على أيّ حال، لا يمكن إنكار أثر الليلة السابقة في العاصمة الفرنسية على سرعة توافق المجتمعين على ضرورة وقف الحرب، وإن كان المعسكران الدوليان حافظا على خلافاتهما بشأن مصير رأس النظام الكيماويّ.
لا يتسع المجال هنا لتعليقٍ مفصّلٍ على توافق فيينا. نكتفي فقط بتسجيل هذا الإجماع المفاجئ بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن حول إصدار قرار بوقف إطلاق النار، لن يشمل داعش والنصرة، ويكون بضمانة الدول الداعمة للأطراف المتحاربة. في ظني أن هذا ما كان ممكناً لولا ليلة باريس الطويلة الدامية. بمعنى أن الدول العظمى أدركت أخيراً الكلفة الباهظة لاستمرار الصراع في سوريا، بعدما وصلت شراراته إلى قلب عالمهم.
عسى أن يكون هذا بداية النهاية لليل سوريا الأطول.