- Home
- Articles
- Radar
قمحانة... البلدة التائهة
يثير الولاء الظاهر من أهل بلدة قمحانة (15 ألف نسمة/ 7 كم عن حماة) لنظام بشار الأسد، وقتالهم المستميت إلى جانبه، أسئلة قد تقود إلى فهم أعمق لهذه البلدة السنّية التي تعد اليوم بحق، قلعة الأسد المدافعة عن مدينة حماة.
في آذار ونيسان 1982، بعد أن ارتكبت قوات حافظ الأسد مذبحتها الكبرى في حماة، كوفئ بعثيون ومخبرون ومجرمون من فقراء قمحانة بنصيب من فتات الغنائم الذي تركته سرايا الدفاع بعد استباحتها المدينة، وفي الوقت عينه ساعد شبان من البلدة بعض الهاربين من المذبحة وفي توصيل دواء وغذاء للمنكوبين العالقين فيها. وخلال تلك السنوات لم تسلم قمحانة ذاتها، اذ لوحق خريجون وطلاب جامعيون من أبناء عائلتي عجاج وشهاب وعائلات أخرى، مات بعضهم تحت التعذيب بعد الاعتقال أو قضوا سنين طويلة فيه، وهرب آخرون إلى الأردن والسعودية ودول أخرى ما زالوا فيها حتى الآن. كان لمحنة هاتين العائلتين -وهما الأكبر في قمحانة- أثر في اتخاذهما موقف الحياد حين اندلعت الثورة، عبرة من الماضي الأليم. بخروج العائلتين من المشهد، ثم بانقسام عائلات أخرى كبيرة (العمر، عبد الرحمن، سودين) بين معارض ومؤيد ومحايد، ضعفت الكتلة العددية المفترض أن تحمل الحراك الوليد وتحميه أمام عائلات مؤيدة، كبرى وذات ثقل (طماس، سباهي، رجب) أو أقل أهمية (كشتو، عثمانلي، علي هي، السخني) نجحت في وأد ثورة قمحانة باكراً.
سباهي، صعود من القاع
بين العائلات الموالية شكل آل سباهي رأس حربة ضد المتظاهرين من جوامع البلدة، جامعين حولهم أرباب سوابق و طامعين في المكاسب وأميين دفعتهم السذاجة إلى تصديق دعاية النظام، قبل أن ينضم إليهم آخرون دفعاً للشبهات واتقاءً لشرورهم. قاد نبهان سباهي، وهو ضابط أمن متقاعد، هذه المجاميع وأسس منها أول الميليشيات المسلحة التي سحقت مظاهرات قمحانة، ثم امتد دورها إلى بلدات طيبة الإمام وصوران وحلفايا وخطاب في الريف المجاور. آل سباهي من العائلات حديثة الصعود في مجتمع قمحانة، ولم تكن لهم أهمية تذكر قبل عام 1980، حين صار المقدم نبهان رئيساً لفرع أمن الدولة في محافظة إدلب وأسهم بفعالية في اجتثاث الإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم، لتطلق يده يفعل ما يشاء بعد ذلك، فبنى ثروة هائلة أسهمت -إلى جانب سلطته- في صعود أشقائه، حسن أمين إحدى شعب حزب البعث في حماة آنذاك، وإبراهيم ومحمد، ثم أبناء السباهي ككل، الذين أوفد بعضهم في مهمات تجسس على بقايا الإخوان المسلمين الهاربين إلى أوربا والخليج.
تقول الروايات إن جد عائلة السباهي جاء من قرية عين قضيب (العلوية) بريف طرطوس قبل قرن أو أكثر. وإن هذا الأصل شكل لأبنائه عقدة نقص مستحكمة، حولها الفلاح الفقير وسمسار المواشي عبد الرزاق والد نبهان إلى تصميم على تعليم أبنائه، وحولها الأبناء تابعية منقطعة النظير للسلطة وحرصاً على جمع المال، لينضموا أخيراً إلى طبقة الوجهاء. ولم يأخذ أي من أجيال العائلة على محمل الجد -إلا بما تمليه المصلحة- الأهواء السياسية المتعاقبة على قمحانة بحكم موقعها الملاصق لمدينة حماة، من الإخوان، أو الاشتراكية العربية على هدى أكرم الحوراني الذي أثر في كثير من متعلمي البلدة، أو الناصرية التي استمرت على نسخ عدة حتى وصلت إلى الجيل الحالي على خط فايز إسماعيل. ولم يكن لكل هذه المشارب السياسية أي أثر نافع أول الثورة بل على العكس، فقد اتحدت لصالح النظام بطرائق مختلفة، خوفاً من تكرار الماضي لدى الإخوان، وتوهماً بالمؤامرة لدى الباقين. وفي البلدة التي لا يمكن وصفها بأنها بلدة فقيرة، إذ زاوج أبناؤها بين زراعة الأرض والوظائف الحكومية؛ راج بين أهلها رأي عام يقول إن «الدولة» لم تقصر عليهم في شيء ولا سبب للوقوف في وجهها. دون أن تغيب استثناءات هامة وكثيرة جسدها ثوار قضى بعضهم تحت التعذيب، ومقاتلون في الجيش الحر، ونشطاء يتذمرون من التعميم الظالم الذي يجعل كل القماحنة شبيحة.
شيعة قمحانة وطراميحها
رغم ما تعرضت له عائلة سودين من قمع في الثمانينات على خلفية انتماء بعض أبنائها إلى الإخوان، اعتنق -في العقد التالي- أبناء فياض سودين، محمد وحسين وحسن، المذهب الشيعي أثناء عملهم في الضاحية الجنوبية لبيروت بتأثير من رجل دين اسمه عماد الموسوي. وبتوجيه من الموسوي الذي زار قمحانة عدة مرات، وبتمويل منه، قاد الأخوة حركة تشيع اتسعت في عهد بشار، حتى وصل عدد المتشيعين العلنيين إلى نحو 100 في العام 2010. وبهؤلاء، ثم بمن تشيع خلال الثورة، شكل حزب الله اللبناني لواء أبو الفضل العباس بقيادة حسين فياض سودين (أبو محمد الباقر) وخلفه بعد مقتله أخوه عبد الكريم.
في القطاع الأوسع من مؤيدي قمحانة سطع مبكراً نجم ضابط المخابرات الجوية سهيل حسن «النمر». وبشراسته وسلطته غير المحدودة ثم تودده وتواضعه لأبناء قمحانة إلى درجة رفضه أن ينادى منهم بـ«سيدي» (لأنهم أخوة)؛ سلب سهيل قلوب الشبيحة في البلدة وأصبح أباً روحياً لهم. وحين أطلق على قائد ميداني منهم لقب «الطرماح» (الطويل) وعليهم «طراميح»، وفق هوس «النمر» بالعربية الفصحى، ظنوا أنهم من آل بيت النظام وأن الثورة قامت ضدهم.