في الساعة التي طافت فيها داعش بأعلامها السوداء مدينة دير الزور بعد أن سيطرت عليها، قبل أكثر من عامٍ، لم يجد فؤاد أحمد ما يفعله سوى البكاء، ورثاء ثورةٍ ووداع مدينة. ولكنه عثر، في لحظة الهزيمة الكبرى تلك، على طاقةٍ للشعر ليقول لدير الزور: «تركنا فيكِ أجمل ما فينا».
كنت إلى جانبه ونحن نتفرّج على مواكب نصر داعش تجوب الشوارع. وكانت الدموع، وهيئة الشاعر الذاهل التي بدا عليها، وصمتنا أمام هتافات «باقية»؛ تجعل المشهد باباً على الهاوية. لم يصدّق فؤاد ما حدث يومذاك، بل لم يشأ أن يصدّق أن تتبدّد كلّ الأحلام دفعةً واحدة، وأن تكون الأنفس التي أزهقت طلباً للحرية قد راحت سدى. ورغم صدمته وعجزه عن بعث أيّ تفاؤلٍ في نفوسنا، ورغم استسلامه الظاهر للنصائح الكثيرة بأن «يطلع من البلد، لأن هذول ولاد كلب وغدّارين»؛ كان يماطل في الخروج من المدينة بأعذارٍ شتى. وكأنه يخبّئ يقيناً سرّياً بـ"يوم خلاصٍ قريب"، حتى جاء يومٌ آخر داهمت فيه داعش «دار عائشة للتوليد»، حيث استأنف فؤاد نشاطه في تسجيل المواليد الجدد -إلى جانب أنشطةٍ أخرى- لتلقي القبض عليه.
أسباب داعش لسجن هذا الثائر والمثقف العنيد كثيرة، يلخّصها مؤيدو التنظيم المتوحش بـ«العلمانية». وهي التهمة الغبية والجاهزة والمختصرة لكلّ من لا يستطيع "الدواعش" تصنيفه في زمر المتهمين الآخرين.
في محاولة تتبع أخباره كان بعض الخارجين من سجن المحكمة في مدينة دير الزور يقول إن فؤاد لا يزال هناك، وإنه –حسبما سمعوا منه مباشرةً- سيُحوَّل إلى محكمة مدينة الميادين ليُطلَق سراحه منها بعد إتمام دورة الاستتابة. وفعلاً، تمّ تحويله إلى الميادين حيث انقطعت أخباره من حينها.
يقول شقيقه: «لم يبق أميرٌ أو قاضٍ أو والٍ في تنظيم الدولة إلا وقابلته، من الرقة إلى البوكمال، لكن أحداً لم يعترف بوجوده ولا بتصفيته». ليبقى مصيره معلقاً دون أن يفسّر أحدٌ سبب تكتم داعش التي تتباهى بقطع الرقاب وتعليق قوائم المحكومين بالموت، أو إن كان على قيد الحياة فما الذي يشكّله من خطرٍ لتستبقيه في سجونها؟!
لم تفلح محاولات الوساطة والشفاعة لهذا الرجل المبتسم الذي نقّب في الحطام ليجمع أشلاء تمثال محمد الفراتيّ، شاعر دير الزور، الذي فجّرته جبهة النصرة، أو الذي أنقذ ما استطاع من كتب المركز الثقافيّ شبه المدمَّر بصواريخ الأسد، أو المدوِّن ليوميات ناهبي مؤسّسات القطاع العام. ولم تنفع السيرة الحسنة لابن الثورة الصامت والهادئ والكاره للشهرة، الذي بذل كلّ ما يستطيع لمساعدة جرحى الحرب.
خلال سنوات الثورة التي استغرقته وعاشها بين الناس على الأرض وتحت القذائف، شكّل فؤاد نموذجاً خاصّاً بين ثوار دير الزور. كان يستطيع أن يأخذ دور المنظِّر الذي يتكلم من بعيدٍ، وكان يستطيع أن ينأى بنفسه محافظاً على موقعٍ لن يتأثر بهذا النأي بأنه «معارض»، لأنه ابن أسرةٍ قتل حافظ الأسد أحد أبنائها في الثمانينات وسجن الآخر 15 سنة، لكنه لم يفعل. بل انطلق مع أوّل المتظاهرين في دمشق، حيث كان يقيم قبل الثورة، ليعتقل هناك. ثم لينتقل إلى دير الزور عندما نزح عنها معظم سكّانها تحت القصف، صيف العام 2012، تاركاً زوجته وأطفاله الثلاثة الذين لن يراهم بعد ذلك، والذين لم يسلموا من مضايقات مخابرات الأسد أو من الحاجة في ظرفٍ رديءٍ دون أيّ سند، ولا سيّما مع خصوصيّة وضع زوجته المتحدّرة من عائلةٍ من محافظة السويداء رفضت بالأصل ارتباط ابنتها بفؤاد لأسبابٍ طائفية.
غاب أبو غيفار، أو أبو أحمد كما تعوّد ثوّار دير الزور أن ينادوه، واختفت معه آلاف صور وأسماء الجرحى والشهداء التي تشكّل تاريخاً في حدّ ذاتها، واختفى معه ما تبقّى من تمثال الفراتيّ.
هكذا غاب... على طريقة الأساطير التي تبشّر بالقيام بعد غياب...