حرق السجائر في مدينة الميادين بدير الزور
متعتان ليليّتان في بيوت محافظة دير الزور، هما انتهاك قانونَي "الدولة الإسلامية" في منع التدخين وفي تحريم التلفّظ بكلمة "داعش".
رغم اتساع الغرفة، والتهوية المستمرّة من المضيف، كاد هواء الغرفة أن يكون خانقاً. خمسة مدخّنين، وأنا معهم، ننتهز الفرصة الآمنة لنعوّض ما فاتنا خلال النهار من سجائر.
تحمل الأسئلة والأجوبة حول قضية التدخين ألفةً ولذةً، توحّد منتهكي الحظر في طائفةٍ واحدةٍ من عالمٍ تحكمه داعش. يقول رجلٌ، يحاول أن يبدو مطّلعاً على أسرار السلطة الحاكمة، إن "نصف الدواعش يدخّنون"، وإن أميراً أمنياً من قرى الميادين مسجونٌ منذ شهرٍ لتعاونه مع المهرّبين مقابل نسبة. يتشعّب الحديث في نواحي تبغيةٍ شتى، في شهوةٍ من الجميع للكلام: "بالبوكمال الناس تدخّن بالشوارع، همّ تابعين لولاية الفرات"؛ "جابولي كيلو فرط من تركيا، كلّ يوم ألفّ لي شوي. والله كيّفت"؛ "وصّلت السيفون وطفّيت المطور. وطلع البيّاع ملثم من القطن. قال لي عندي خمس كروزات، اثنين جلواز وثلاثة ميكادو، خذها بتسع تالاف. وأخذتها". يتباهى المتحدّث الأخير، الذي بدا ذا نفوذٍ في شبكة توزيع التبغ السرّية في منطقته، أن الكروزات الخمسة شكّلت مؤونةً كافيةً له لشهرين. لكن الآخرين شكّكوا في هذه المدّة المبالغ فيها مع فمٍ لا تشبعه أقلّ من أربعين سيجارةً في اليوم، وهو المعدّل الذي ذكره "صاحب الكروزات الخمسة" نفسه في فقراتٍ سابقةٍ من الحديث.
رسمياً، وفق لائحة عقوبات داعش، يُجلد المدخّن "تعزيراً" في المرّة الأولى لإلقاء القبض عليه بالجرم المشهود. لكن التطبيق العمليّ ليس منضبطاً بهذه القاعدة في كثيرٍ من الحالات، بل بحسب درجة غضب القاضي لحظياً، أو رأيه الشخصيّ بالمتهم. فقد يُكتفى ببضع جلداتٍ ونصيحةٍ زاجرة، أوقد يؤدّي الحظّ العاثر للمقبوض عليه إلى أن يصبح حفّار خنادق على جبهةٍ من الجبهات، أو قد ينزلق، نتيجة هفواتٍ منه أثناء التحقيق، إلى تهمٍ أخرى يعدّ التدخين إلى جانبها تهمةً تافهة. تتحرّى داعش باهتمامٍ أكبر عن تجّار التبغ ومهرّبيه. وتحصل، بشكلٍ دائمٍ، حوادث اكتشاف حمولات تبغٍ في سياراتٍ كبيرةٍ على الطرقات. ويهاجم عناصرها، بين حينٍ وآخر، مستودعات تبغٍ سرّيةً في البيوت. وإضافةً إلى حرق "البضاعة"، يغرّم مالكوها بمبالغ طائلة. ولا تخلو النشرات الإعلامية لمكاتب داعش من صور إحراق كمياتٍ هائلةٍ من صناديق الدخان، كأحد إنجازات "الدولة الإسلامية" التي تحارب ليل نهارٍ "كلّ ما يغضب الله".
في سماء القرية -والقرى الأخرى- حيث كانت سهرة التدخين، يُسمع يومياً هدير طائرات التحالف، وخاصّةً في الليل. كان الهدير في سهرتنا يبعث على القلق، ولكن صاحب البيت طمأنني أن لا أخاف، فـ"طيّارات التحالف ما تضرب بيوت مدنيين مثل طيارات بشار". حين دوى انفجارٌ غير بعيدٍ وقفنا وفتح بعضنا باب الغرفة مستطلعاً موقع الانفجار. "بالبرّية جبلة"، قال الأوّل محدّداً جهة الانفجار بالجنوب. "لا، جزيرة وبحقل العمر"، حدّد الثاني موقع الانفجار باتجاهٍ معاكسٍ. رويداً رويداً تلاشت آثار الطائرة من السماء المظلمة وعادت مجريات السهرة إلى طبيعتها. إلا أن صاحب البيت تأخر قليلاً قبل أن يعود مفسّراً تأخيره بالتأكّد من أن كلّ شيءٍ في المحيط على ما يرام، وأن الباب الخارجيّ قد أغلق بإحكام. يسخر أحدنا من هذا الحذر الزائد، قائلاً إن "الدواعش لن يهبطوا علينا من السماء، طالما الأبواب مغلقة والشبابيك كذلك". لكن آخر يقول إنهم قد يتلصّصون على البيوت المضاءة بالنظر عبر الشبابيك، وخاصّةً بعد غارات طائرات التحالف، بحثاً عن جواسيس محتملين يقومون بإلقاء الشرائح الممغنطة لإرشاد تلك الطائرات إلى أهدافها، دون أن يعثروا على أحدٍ من هؤلاء، ولكن ليعودوا في الغالب ببعض المدخّنين عاثري الحظ، ممن كانوا مطمئنين إلى أن "الدواعش لن يهبطوا من السماء".
يُنهي أكبر الحضور سنّاً جدل الهبوط من السماء، مستذكراً جملةً تاريخيةً كان قد سمعها ذات يومٍ، حين كان مهموماً بدينٍ ثقيلٍ، دفعه إلى أن يهيم على وجهه من قريةٍ إلى أخرى بحثاً عمن يقرضه وهرباً من دائنيه، فقابل بالصدفة "شايب" قال له إن شيئين إن توافرا تهون كلّ مصيبةٍ على قلب الرجل: "السيجارة والشاي". واليوم، يخلص المسنّ إلى أن "مصيبة داعش تهون، ومصيبة بشار تهون، ومصيبة هالطيارات بهالليل تهون" إذا تمكّن الإنسان من الخلوّ بنفسه أو مع أبناء طائفته و"دخّن مع الشاي ثم دخّن مع الشاي".