يحتفل السوريون في هذه الأيام بالذكرى الثالثة لانطلاق ثورتهم، تلك الثورة التي أشعلتها أنامل صغيرةٌ خطّت على جدران إحدى المدارس (الشعب يريد إسقاط النظام). ثورةٌ عظيمةٌ لشعبٍ أعظم يخلق من الصمت حكاية تمرّدٍ على الخطأ والفساد والظلم.
الرجل البخّاخ
اعتمدت الثورة في بدايتها على كتابات شبّانٍ مجهولين على الجدران، كانت تستنهض الهمم وتحرّض الصامتين على التحرّك لإسقاط الخوف ثم إسقاط النظام. وتمكن هؤلاء المجهولون من جرّ الناس إلى الساحات وإعطاء المظاهرات زخماً كبيراً. ولا تخفى على أحدٍ الأخطار التي كان يتعرّض لها هؤلاء الشباب أثناء كتابتهم على الجدران، إذ كثيراً ما انتهى المطاف بهم إلى الموت في سجون النظام أو برصاصه.
اختفى الرجل البخّاخ من حياة السوريين في المناطق المحرّرة لمدّةٍ معينة، ليعود اليوم من جديدٍ بعد تراكم الأخطاء وتسلق بعض المفسدين للثورة وارتداء اللصوص ثوب الثوّار، فتطلبت هذه الحالة عودة الرجل البخاخ إلى الشوارع المحرّرة لتصحيح المسار. في مدينة البوكمال في أقصى الشرق قرّر شابٌّ بدء ثورةٍ جديدةٍ من قلب الثورة السورية، دون الخروج عن إطارها ولا التخلي عن قيمها ومبادئها. يملأ (م. د)، كما يحب أن يسمي نفسه، جدران مدينة البوكمال اليوم بكتاباته التي تنتقد المنحرفين عن نهج الثورة، وتخاطب اللصوص والمتسلقين، وتفضح ما يقومون به من فسادٍ وسرقةٍ وتجاوزاتٍ لا تمتّ للثورة بصلة.
ثورةٌ في قلب الثورة
تمكنت "عين المدينة" من اللقاء بهذا الشاب لتسأله عن الدافع وراء عمله الخطر فأجاب: "هذه الثورة ثورةٌ عظيمة، فهي كاشفةٌ فاضحة. وكلما طالت كلما بانت الحقائق واكتشفنا فساد نفوس البعض. ما دفعني إلى الجدران هو إحساسي أن الثورة بدأت تنحرف عن مسارها، فأنا يومياً أسمع الكثير من عبارات الذمّ والقدح بهذه الثورة من قبل بعض الناس البسطاء الذين يشاهدون تصرفات اللصوص والمتسلقين فيحكمون بالسوء على ثورةٍ عظيمةٍ دفعنا ثمنها آلاف الشهداء".
وعن المخاطر التي قد يتعرّض لها، وعن شعوره أثناء الكتابة على الجدران قال: "لم يرهبنا النظام سابقاً حتى يرهبنا بعض ضعاف النفوس. أرى أن ما أقوم به جزءٌ لا يتجزّأ من العمل الثوريّ، فالسكوت عن الأخطاء سيؤدّي في نهاية المطاف إلى صناعة طغاةٍ جدد".
مع الناس
"لم يطِل الله هذه الثورة إلا ليميز الخبيث من الطيب"؛ "سنظل نكتب حتى لو اضطررنا لكتابة الأسماء"؛ "شوّهتم إسلامنا"؛ "لا تعبثوا بثورتنا"؛ "أين عائدات النفط؟"، وغيرها من العبارات باتت تلفت الانتباه في المدينة وأصبحت ظاهرةً حيويةً وطريفةً بحسب ما يرى كثيرٌ من سكان البوكمال.
يقول أبو محمد، وهو رجلٌ خمسينيٌّ كتب (م. د) على حائط منزله: "في بداية الثورة كنا نخشى من الشباب الذين يكتبون على الجدران، بسبب ممارسات الأمن ضدنا. لكن اليوم الأمر مختلف، فقد صرنا نرى في هذه الكتابة وعياً كبيراً لدى شبابنا وخوفهم على مصلحة بلدهم. ولم يزعجني وجودها على جداري".
أما الحاج عبد الله فيرى فيها سلوكاً محقاً ولكن في التوقيت الخاطئ، حين قال: "صحيحٌ أن هذه الكتابات تحاكي الواقع، لكنها تشتت الانتباه عن الهدف الرئيسيّ وهو إسقاط النظام وأركانه. الاندفاع الموجود لدى هذا الشاب جميل، ولكن الأمر يحتاج إلى صبرٍ وحكمة".
ويرى ياسر، وهو نازحٌ إلى البوكمال، في نشاطات (م. د) الحائطية فكرةً جميلةً تمكن تسميتها بتنظيف الثورة من الداخل. ويتمنى أن يكون هناك من يعير اهتماماً لهذه الكتابات، ويحاسب اللصوص والفاسدين على أفعالهم.
بينما يعتقد أيمن، وهو أحد شباب مدينة البوكمال الذين شاركوا في المظاهرات ضدّ النظام، أن هذه الكتابات تسهم في ضخّ دماءٍ جديدةٍ في جسم الثورة، وتجعلنا نحسّ أنها لن تموت في صدر الشعب.