تعدّ الهزائم التي منيت بها "داعش"، بدءاً من مدينة تل أبيض في حزيران من العام الماضي، ثم مدينتَي الشدّادي وتدمر في شباط وآذار من هذا العام، ثم في القرى الحدودية بريف حلب الشماليّ مؤخراً -فضلاً عن هزائمها في العراق- الوقائع الأبرز التي تعبّر عن الضعف الذي يعانيه التنظيم. وإلى جانب هذه الهزائم، التي يمكن عدّها نتيجةً لحالة الضعف وفي الوقت ذاته سبباً لها، من بين أسبابٍ أخرى؛ يأتي تغيّر الخطاب العام لـ"داعش" من "الدولة ذات البأس" إلى "الدولة المظلومة" ليؤكد هبوطاً عميقاً في قواها إلى حدٍّ لا صعود بعده، في المستقبل المنظور على الأقلّ.
فشلت "داعش"، خلال الأشهر العشرة الأخيرة، في إحراز أيّ نصرٍ كبيرٍ على أعدائها في الجبهات السورية والعراقية، رغم إصرارها وحاجتها الملحّة والدائمة إلى ذلك. ولا تعدو عمليات التسلل إلى عمق مناطق سيطرة الخصوم، بين حينٍ وآخر، كونها محاولاتٍ يائسةً وطائشةً لتذكير الأتباع –والأعداء- بالقدرة على تعويض الخسائر والانتقام بسرعةٍ وفي أيّ وقت.
ظهرت علامات الضعف الأولى في البنية العسكرية لـ"داعش" بفقدانها قادةً مميّزين، إن بكفاءةٍ أُثبتت وجُرّبت خلال المواجهات السابقة، أو بشجاعةٍ وسمعةٍ جاذبةٍ ومؤثرة، عجز التنظيم، ويعجز، مع تآكلهم قتلاً أو إصاباتٍ مقعِدة، عن تعويضهم بقادةٍ من المستوى ذاته. لتُملأ الفراغات القيادية الحاصلة بمبايعين كانوا مجرّد مقاتلين عاديين في صفوف الجيش الحرّ والفصائل الأخرى قبل سيطرة "داعش"، أو حتى ناشطين مدنيين، وربما بحياديين تماماً فاتهم قطار الثورة الذي تعثر فوجدوا في قطار "داعش" فرصةً لا تعوّض لتبوّء حيثيةٍ ما، بذلوا في سبيلها كلّ الحماس والتملق تجاه "الدواعش" الأصليين. ويظهر استعراض قادةٍ ميدانيين اليوم، في قطاعات جبهاتٍ متفرّقةٍ في دير الزور والرقة، أسماءً كانت في خانة المقاتلين العاديين وناشطي الإغاثة والإعلام والحياديين، وفي مرّاتٍ من مؤيدي النظام وربما متطوّعين في أجهزة مخابراته.
ولم تكن ظاهرة تآكل أعداد المقاتلين "المحترفين" وليدة مرحلة الضعف فقط، بل تمتدّ إلى وقتٍ سابقٍ، أيام الهجمات الواسعة والتمدّد الكبير صيف 2014. وحسب تسريباتٍ مؤكدةٍ من مطلعين في ديوان جند "داعش" في "ولاية الخير" (دير الزور) فاق مجموع أعداد قتلى التنظيم في معارك عين العرب/كوباني، والمعارك اللاحقة لها في محافظة الحسكة، 1500 قتيل، سقطت النسبة الأكبر منهم باستهدافهم من طائرات التحالف على الجبهات المباشرة أو على طرق المؤازرة والإمداد لهذه الجبهات.
ويفاقم من مشكلة النوع، وإلى حدٍّ بالغ التأثير، إغلاق طرق ومنافذ العبور إلى سوريا أمام المهاجرين، مما قطع الشريان المغذي بخبراتٍ عسكريةٍ اكتسبها بعض هؤلاء في ساحات قتالٍ سابقة، أو بمستعدين من حيث الملكات لحيازة هذه الخبرات نتيجة نشأةٍ في بيئاتٍ جهاديةٍ في الشيشان أو أفغانستان أو وسط وجنوب شرق آسيا. وحسب مصدرٍ مقرّبٍ من مسؤولين في مجال استقبال المهاجرين عند وصولهم إلى الأراضي السورية؛ لم ينزل، خلال خمسة أو ستة أشهرٍ على الأقلّ، أيّ وافدٍ جديدٍ في البيوت والمقرّات المخصّصة لذلك. وعلى العكس سُجّلت حالات فرارٍ أو انشقاقٍ لمهاجرين –ومهاجراتٍ- إلى الأراضي التركية، قبل تسليمهم أنفسهم لسفارات بلادهم. وإذا صدقت الأنباء المتداولة على نطاقٍ ضيقٍ في أوساط المتابعين الأمنيين من فصائل الجيش الحرّ، وهي قابلةٌ للتصديق على أيّ حال، فإن أعداد الراغبين والمستعدين للانشقاق عند توافر ظروفٍ ملائمةٍ ترتفع باستمرار، مع الخيبة التي يستشعرها هؤلاء وتبدّد الوهم بـ"دولة المسلمين" الفاضلة والقوية.
ومن ناحيةٍ أخرى أدّى غياب مهاجرين جددٍ إلى حرمان "داعش" من مادةٍ دعائيةٍ طالما تبجح بها رسميوها وأتباعها عن أناسٍ باعوا ترف دنياهم في مواطنهم الأصلية وهاجروا إلى "دولة الإسلام" يبغون الدفاع عنها والشهادة في سبيل بقائها. وحتماً لن يجد دعاة "داعش" مثلاً محلياً في هذا الشأن يضربونه في معرض تحريضهم مسلمين سوريين على البيعة، وهم من أتيحت لهم من غير جهدٍ "نعمةٌ" جغرافيةٌ أن يكونوا صدفةً في "دولة الإسلام" التي "يبذل آخرون الغالي والنفيس" ويكابدون المخاطر للوصول اليها. إن غياب دعايةٍ ملموسةٍ مثل دعاية المهاجرين سيحرم "داعش" من منضمين مبدئيين جددٍ إلى صفوفها.
ورغم استمرار معدلات تجنيد المحليين على الوتيرة السابقة، وخاصّةً في صفوف الأطفال والمراهقين، وهم الفئة المفضّلة لقادة التنظيم نظراً لسهولة التأثير فيها ثم بسبب توافرها بأعدادٍ كافيةٍ في مجتمعاتٍ ترتفع فيها أعداد الشبان والرجال الغائبين أو الهاربين من جور "داعش" نفسها؛ تظهر في بعض "الولايات" في أوقات النفير والاستعداد لمعارك كبيرة، في الأشهر الأخيرة على وجه التحديد، مظاهر نقصٍ عدديٍّ في حملة السلاح من المتفرّغين للقتال، مما يدفع بمسؤولي "داعش" العسكريين إلى القيام بعمليات تجميعٍ عشوائيةٍ لعناصر من أجهزة التنظيم ذات العمل المدنيّ لسدّ هذا النقص. وتُبرز الأعداد المرتفعة للقتلى والجرحى في فئة المبايعين المحليين غير العسكريين، وفي فئة المراهقين والأطفال، الاعتماد المتزايد لـ"داعش" على هاتين الفئتين من عناصرها، كما تُبرز عجز التنظيم أو لامبالاته أمام ارتفاع خسائره البشرية بشكلٍ عام.
وفضلاً عن الاعتماد على الأطفال والمبايعين غير العسكريين تحاول "داعش"، منذ مطلع العام الحاليّ، أن توسّع دائرة المستهدفين بالتجنيد في المجتمعات الخاضعة لها من خلال تجديد علاقتها بهذه المجتمعات وإيجاد مصالح مشتركةً معها. إذ تعمل "داعش"، ممثلةً بديوان العلاقات العامة والعشائر، على التقرّب من شيوخ ووجهاء العشائر في محافظتي دير الزور والرقة بوسائل شتى أبرزها استرضاء بعضهم بإطلاق سراح عشرات المعتقلين من سجونها في الرقة. وكذلك عبر تكثيف الاجتماعات معهم، فقد عقدت اجتماعين عشائريين كبيرين في بلدتي ذيبان وحوايج ذياب، شرق وغرب دير الزور، واثنين آخرَين في مقرّ ديوان العشائر وفي بلدة حزيمة، وسط وشمال مدينة الرقة. وفي هذه الاجتماعات خاطب مسؤولو "داعش" المشاركين بلهجةٍ ملطّفةٍ تخلو من الغطرسة والتكبّر المعتادين، وتركّز الخطاب على شرح حالة "المركب الواحدة" التي تحمل الجميع؛ "الدولة الإسلامية" ورعاياها في دير الزور والرقة وسائر "أرض المسلمين". تلك المركب التي لن تغرق، في حال غرقت، بـ"الدولة" وحدها بل بالجميع، ولن تفلح -حسب خطابات "داعش"- أيّ محاولة نجاةٍ بالقفز لأيٍّ من هؤلاء الركاب، لأن الأعداء لن يميّزوا، فهم لا يستهدفون "الدولة" فقط بل المسلمين كلهم. وتستعمل "داعش" لتأكيد هذا الخطاب بعض الممارسات العنصرية لميليشيا ypg في حقّ سكان القرى والبلدات العربية في الحسكة والرقة، من اعتقالٍ عشوائيٍّ وتجريف قرى وترحيل ساكنيها، وهي الممارسات التي وقعت بالفعل وإن بدوافع مختلفةٍ عن ما تقوله "داعش". ويرتبط خطاب "داعش" السوريّ هذا بخطابها لمجتمعات المحافظات العراقية الواقعة تحت سيطرتها بتذكيرهم بالممارسات السابقة لحكومة المالكي "الشيعية"، والممارسات المتجدّدة لمجاميع الحشد الشعبي "الشيعيّ" في حقّ "المسلمين" السنّة بطبيعة الحال. وفي هذه الاجتماعات طالب متحدّثو "داعش"، انطلاقاً من خطر "الأكراد"، شيوخ ووجهاء العشائر بالوقوف مع "الدولة" بتشجيع أبناء هذه العشائر والدفع بهم إلى مبايعتها والانخراط في جبهات المعارك. وكما يفعل نظام بشار الأسد بطرحه خيارين فقط أمام المجتمع الدوليّ؛ هو أو الإرهاب، تفعل "داعش" أمام المجتمعات الخاضعة لها بطرحها خيارين فقط أيضاً، هي أو الآخر العدوّ في العقيدة والأهداف بشكلٍ تام، والذي يشكل خطراً لا على الدين فقط بل على البقاء كله، قتلاً أو تهجيراً. واستكمالاً لما بدأه مسؤولو ديوان العلاقات العامة والعشائر باسترضاء الشيوخ والوجهاء، عمل أمنيو "داعش" على اللقاء بممثلي كلّ عشيرةٍ على حدةٍ في اجتماعاتٍ مغلقة، كرّر فيها الأمنيون المطالب ذاتها، عارضين مصالح ومغرياتٍ لمستمعيهم إن استجابوا، وتعهداً بحلّ القضايا العالقة، ومحاسبة الشخصيات والعناصر المسيئة من التنظيم.