منذ صدوره بالإنكليزية، عام 1999، ينتظر قرّاء العربية ترجمة هذا الكتاب الذي ألّفه حنا بطاطو (1926 - 2000)، الأكاديميّ الفلسطينيّ الأصل الأمريكيّ الجنسية، معتمداً على مكتبةٍ واسعةٍ من الوثائق والإحصائيات والمراجع، بالإضافة إلى حصيلة عدّة زياراتٍ قام بها بطاطو إلى سورية، أجرى خلالها العديد من اللقاءات مع أشخاصٍ من مستوياتٍ مختلفةٍ في الحكم، وجولاتٍ ميدانيةٍ في عددٍ من المناطق، حاور فيها فلاحين وملاك أراضٍ وفاعلين محليين. صدر الكتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، عام 2014، بعنوان «فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقلّ شأناً وسياساتهم».
يخصّص بطاطو الفصول الأولى من كتابه لبيان أن فلاحي سورية لا يشكلون نمطاً اجتماعياً واحداً بل أنماطاً عدّة؛ فمن الضروري التمييز، في السلوك السياسيّ كما في أشياء أخرى، بين «الفلاحين البستانيين»، كما في غوطة دمشق، وسواهم من «الفلاحين الزراعيين»؛ وبين الفلاحين ذوي الأصل المحارب، أو الفلاحين الجبليين، والفلاحين الأكثر مرونةً من أبناء السهول المفتوحة؛ وبين الفلاحين الذين لا عشائر لهم، وأولئك الذين يتمتعون بروابط عشائريةٍ قوية؛ وبين الفلاحين مالكي الأرض ومن لا يملكونها منهم؛ وبين الفلاحين الذين ينتمون إلى طوائف باطنيةٍ، كالعلويين والدروز والإسماعيليين، وتحظى لديهم التقية بأهميةٍ خاصّة، وبين من ليست لديهم هذه المعتقدات. وبرأي بطاطو، المدلّل بعشرات الاستشهادات والملاحظات الميدانية، لا يمكن وضع كلّ هؤلاء الفلاحين المختلفين في كتلةٍ واحدة، أو الافتراض أنهم يسلكون سياسياً بالطريقة ذاتها. بعد قرونٍ من الحياة الهامشية والفقر، تخللتها ثوراتٌ غير مكتملةٍ لفلاحين محاربين، وظهرت فيها أحياناً تجمعاتٌ مهنيةٌ للفلاحين البساتنة فقط؛ أسَّس الحزب العربيّ الاشتراكيّ (الذي أنشأه أكرم الحوراني) لتركيز الاهتمام على الفلاحين وتأكيد الأهمية الحاسمة لهم في حياة المجتمع السوريّ ككلّ. وسار الحزب خطواتٍ حاسمةً على طريق تحرير أعدادٍ كبيرةٍ من أفقر فئاتهم في وسط البلاد من الإحساس المخدِّر بالجبرية الصوفية، وتحويلهم من كتلةٍ سائبةٍ مفكّكةٍ إلى طبقةٍ متماسكةٍ نسبياً ذات أهدافٍ واعيةٍ ومحدّدةٍ إلى هذه الدرجة أو تلك. وفوق ذلك، وضع هذا الحزب حدّاً لعزلتهم عن الحياة السياسية السورية، وشقّ الطريق، مادياً ونفسياً، أمام التغيّرات العميقة في ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية التي أجراها نظام وريثه حزب البعث فيما بعد. ولكن «البعثية» نفسها لم تكن قوّةً واحدةً تعمل باتجاهٍ واحدٍ أو تحت تأثيراتٍ متماثلة، بل كانت غطاءً لتشكيلةٍ من العناصر. لم يكن هناك حزب بعثٍ واحدٌ، بل ثلاثة أحزابٍ كانت، رغم ترابطها المعقّد، متمايزةً تماماً في قاعدتها الاجتماعية، وإطارها الذهنيّ، واستجاباتها، وخصال أعضائها وقيادتها، والمصالح التي خدمتها. بين الحزب الرومانسيّ الذي أسّسه ميشيل عفلق وآخرون، ضمن دوائر صغيرةٍ من الطلاب والمعلمين، وانتهى دوره بحلّ نفسه عند قيام الوحدة عام 1958، وإن لم يفقد كلّ أهميةٍ في سورية إلا عام 1966، وبين البعث الذي دار في فلك «اللجنة العسكرية» التي تأسّست في القاهرة من ضبّاطٍ من خطّ زكي الأرسوزي، من أبناء وجهاء قرويين متوسّطين من الأصول الطائفية الأقلوية غالباً، واستمرّ دوره حتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة، عام 1970، ليؤسّس بعثه الخاصّ من البيروقراطيين الموالين له، مع استيعاب عناصر مما سبقه.
حنا بطاطو
كما يمكن تمييز أربع مستويات للسلطة في عهد الأسد؛ على المستوى الأوّل، وهو مستوى الاتجاهات السياسية العامة والمسائل الحاسمة بالنسبة إلى النظام، كالأمن والمخابرات والشؤون العسكرية والخارجية؛ تمتّع الأسد بسلطةٍ فرديةٍ من غير منازع. وتحته مباشرةً يأتي رجال المستوى الثاني، من رؤساء أجهزة الاستخبارات والأمن المتعددة، التي تعمل باستقلالٍ عن بعضها، وتتمتع بحرّيةٍ واسعة، وتراقب عن كثبٍ كلّ ما يمسّ النظام. وهي عيون الأسد وأذنيه. كما يأتي على المستوى الثاني نفسه قادة التشكيلات المسلحة النخبوية، الحامية للنظام والرادعة للانقلابات، كالحرس الجمهوريّ والقوّات الخاصّة وسرايا الدفاع حتى عام 1984. وهذه التشكيلات، وهي الوحيدة المسموح لها بدخول العاصمة، هي السند الأساس لسلطة الأسد، لا القوّات العسكرية النظامية التي راح يكدّ، منذ 1970، ليبعدها عن السياسة. أما في المستوى الثالث فتأتي قيادة حزب البعث، التي لا تقارن من حيث الأهمية بقادة أجهزة الأمن أو قوّات النخبة. وتعمل هذه القيادة كهيئةٍ استشاريةٍ للأسد، وتراقب، عبر الجهاز الحزبيّ، تنفيذ سياساته تنفيذاً صحيحاً على يد عناصر المستوى الرابع، أي الوزراء وكبار موظّفي الدولة والمحافظين وقادة المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب. وفي كلّ هذه المستويات، ولا سيما من الأرفع إلى الأدنى، حرص الأسد على تعدّد مراكز النفوذ وتوزيعه على عددٍ من الهيئات ذات التوازن المتبادل، كيلا تصبح واحدةٌ أو شبكةٌ منها خطراً عليه، أو تطالب لنفسها بسلطةٍ تزيد على ما يتوافق مع توازنات أمن حكمه. ولكن، على الرغم من أنه صار حاكم سورية بلا منازع، ولا سيما بعد إخماد تمرّد الإسلاميين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ثم تطويق محاولة الاستيلاء على السلطة التي قام بها شقيقه رفعت؛ كانت سلطة حافظ الأسد خاضعةً لحدودٍ طبيعيةٍ معينة. فلا يمكن أن نفترض أنه مطلعٌ طوال الوقت على كلّ ما يدور في كلّ جزءٍ من أجزاء نظامه الشامل، على الأقلّ بسبب ميله إلى الانعزال وإلى السماح للموظفين العاملين تحت قيادته بحرّيةٍ غير قليلةٍ في أمورٍ لا يراها ذات خطر. وفضلاً عن ذلك، كان يحدّ من سلطته، نوعاً ما، نقصُ اهتمامه النسبيّ بالمشكلات الاقتصادية أو غيرها من المسائل ذات الطبيعة الفنية، أو نقص معرفته بها. وبالطبع ينطبق هذا بدرجةٍ أكبر على أعمال الوزارات وقيادة الحزب والمنظمات المهنية والقطّاعية التابعة. أما على المستوى الثاني من مستويات السلطة فقد لعبت القرابة والطائفة والعشيرة أدوارها الواضحة في بناء الثقة؛ فمن بين الضباط الـ31 الذين اختارهم الأسد ليحتلوا المواقع الرئيسة في القوّات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية المقرّبة وأجهزة الأمن، كانت هناك نسبة 60% من العلويين، من بينهم ثمانيةٌ من أبناء عشيرته، الكلبيّة، وأربعةٌ من أبناء عشيرة زوجته، الحدّادين. وكان سبعةٌ من هؤلاء الاثني عشر من أقربائه المباشرين، بالدم أو بالزواج. وقاد ثلاثةُ منهم –شقيقه رفعت، وابن عم زوجته عدنان مخلوف، وابن عمّته شفيق فيّاض- أهم وحدات النخبة الضاربة؛ سرايا الدفاع التي شكّلت الدعامة الأساسية للنظام حتى 1984، والحرس الجمهوريّ الذي أصبح أحد دعائمه الرئيسية منذ 1984 فصاعداً، والفرقة الثالثة المدرّعة التي كانت تستخدم منذ 1978 كقوّةٍ احتياطيةٍ لقمع أعداء النظام في الداخل أو معاقبهم. إضافةً إلى الدور الذي لعبه ابن الرئيس، باسل، في الحرس الجمهوريّ، منذ عام 1987 تقريباً وحتى وفاته بحادث سيرٍ في 1994، ليخلفه شقيقه بشار الذي أُدخِل مثله في برنامج الضباط القادة. وفيه تلقى شبّانٌ، مختارون بعنايةٍ، إعدادً متقدّماً في مجالاتٍ عسكريةٍ متنوّعةٍ، بهدف تأهيلهم بوضوحٍ لخلافة الحرس القديم من قادة القوّات المسلحة. وبخلاف ذلك، فقد زادت نسبة البعثيين السنّة في المستوى الثالث من السلطة، وهو القيادة القطرية للحزب، بالتوازي مع زيادة تمثيل عناصر من خلفياتٍ حضريةٍ أو تجاريةٍ أو تجاريةٍ صغيرةٍ في أنساق الحزب العليا، وتعيين دمشقيٍّ، هو عبد الرؤوف الكسم، في منصب رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى أعضاء آخرين في الحكومة من أبناء المدن. ولكن كلّ ذلك أتى مع تضاؤل أهمية هذه المناصب، وعلى خلفية الصدام الدامي مع الإسلاميين خلال أعوام 1976-1982، ومحاولة استرضاء الطبقة الوسطى السنّية التي أورثتها هذه السنوات شرخاً مع النظام لم يندمل بعدها. يبحث الكتاب بالتفصيل أربعة مفاصل أساسيةً في حياة الأسد، لتسليط الضوء على جوانب من شخصيته وسياساته؛ وهي هزيمته –كوزيرٍ للدفاع- في حرب حزيران 1967، وصدامه مع الإخوان المسلمين، وحرب الخلافة التي كادت تنشب مع شقيقه في عام 1984، وسلوكاته المتناقضة تجاه حركة فتح والملف الفلسطينيّ عموماً في مراحل وظروفٍ مختلفة. ربما كان الكتاب بالفعل أهمّ ما كتب عن سورية الحديثة، ولكنه لا يخلو من ثغراتٍ وأخطاءٍ في بعض التفاصيل. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في جهدٍ بهذا الحجم والاتساع، ولا سيما مع أخذ زمن تأليفه، ومقدار ما كان متاحاً من معلوماتٍ وقتها، بالحسبان.