نشرت «عين المدينة» مؤخراً إصداراً يتناول «الحركات السلفية الجهادية الصغرى في سورية»*، رصد حركاتٍ كجند الأقصى وصقور العز والكتيبة الخضراء وحركة شام الإسلام وأجناد القوقاز والحزب الإسلامي التركستاني وسواها. وفي ما يلي استعراضٌ للإصدار عبر مقدمته وخاتمته.
مع تصاعد عنف نظام بشار الأسد ضد المنتفضين عليه، واتخاذ ممارساته طابعاً طائفياً كفّ عن ستر نفسه يوماً بعد يوم، ثم مع التدخل الإيرانيّ لدعم هذا النظام بأذرعٍ طائفيةٍ متعددةٍ خلال العام 2012، ومع غياب إجراءاتٍ رادعةٍ من قبل المجتمع الدولي؛ نشأت طبقةٌ جديدةٌ من طبقات الصراع الذي أفرزته الثورة السورية. قوبلت فيها هذه الممارسات الوحشية والجهاد الشيعيّ، المنطلق تحت شعار حماية «المراقد»، بجهادٍ سنّيٍّ أسهمت في ترسخه واتساع دائرة المنجذبين إليه دعوات عددٍ من مشاهير شيوخ السنّة التقليديين في العالم العربيّ، فضلاً عن المراجع والرموز الجهادية، للقتال في سوريا نصرةً لأهلها المستضعفين. لتتوافد طلائع المهاجرين الباحثين عن معركةٍ مقدسةٍ في «أرض الشام» ضد حشودٍ سبقتهم لفصائل ومجاميع شيعيةٍ منظمةٍ جاءت لتخوض، هي الأخرى، معركتها «المهدوية» على ذات الأرض.
في الجانب السنّيّ حظيت الحركات السلفية الجهادية الكبرى، وهي التشكيل المعروف بالدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة النصرة الفرع الرسميّ لتنظيم القاعدة، وإلى حدٍّ ما حركة أحرار الشام في طورها السلفيّ الجهاديّ الأول، باهتمامٍ إعلاميٍّ وسياسيٍّ وبحثيٍّ كبير.
غير أن الواقع السوريّ أفرز عدداً كبيراً من الحركات السلفية الجهادية الأقل شهرةً، والتي كان الصراع بين الفرعين الكبيرين لهذا التيار، داعش وجبهة النصرة، أحد أبرز أسباب محافظتها على استقلاليتها تجنباً للدخول في حرب الإخوة. عاشت هذه المجموعات الصغيرة مساراتٍ تراجيديةً خاصّةً بكلٍّ منها، في ظلّ ضعفها الماديّ وتجاذباتها الداخلية التي غالباً ما توزّعت على ثلاثة تياراتٍ مصطرعة الرأي، بين من يفضّل بيعة داعش أو بيعة النصرة أو يرى المحافظة الصعبة على الاستقلالية والحياد بينهما. وغالباً كان مصير هذه الحركات انفصام شرائحها الثلاث، وتوجّه كلّ من يريد بيعةً إلى خياره الخاصّ، واضمحلال من تبقى.
وقد عبّرنا عن هذه الحركات بوصف «طيف القاعدة» بسبب إيمانها الواضح والمعلن بأفكار هذا التنظيم وأدبياته، وتبنيها شعاراته وقادته التاريخيين، ورموزه البصرية وتنويعاتٍ من «رايته»، وكذلك بسبب تكوّن هذه الحركات أساساً على يد مهاجرين ينتمون إلى نمط الجهاديّ العالميّ الذي أشاعته القاعدة. ورغم تنوع خلفيات كثيرٍ من المؤسّسين لم يظهر بينهم -حسب رصدنا على الأقل- من طوّر مشروعه الجهاديّ بناءً على التجربة السورية، أو من جاء أصلاً بمشروع جديد أكثر «حداثة نظرية» وإن كان مشتقاً من وحي القاعدة. ودون قدرٍ كافٍ من الأدلة نقول: قد يكون هذا الاستنساخ النظريّ لهذا الوحي سبباً إضافياً للضعف أمام قطبي الجهادية السلفية، داعش وجبهة النصرة، سيلعب دوره في دفع هذه الجماعات إلى مصائرها بالتلاشي أو بالذوبان في أحد هذين القطبين.
يقدّم هذا البحث ثلاثة أنواعٍ من المعطيات؛ أولها هو التقارير الوصفية التي أنجزناها عن كلّ حركة، بالاعتماد على تويتر أساساً، وهو الساحة الإعلامية والسجالية الأبرز للجهادية الإسلامية الراهنة، وعلى بعض الأخبار والمقالات في وسائل الإعلام، وعلى معلوماتٍ ميدانية. أما النوع الثاني فهو بعض المواد «الخام» من تلك القليلة المتداولة لهذه الحركات أو عنها، شهاداتٍ أكانت هذه الموادّ أم سيراً شخصيةً لقياداتٍ أو مقاتلين او نعياً رسمياً لهم أم سلسلة تغريداتٍ هامةً على تويتر. والقصد من هذا النوع من المعطيات هو إدخال القارئ في جوّ ونمط ولغة انشغالات هذه الجماعات وحياتها وحراكها الداخليّين. وفي هذا القسم لم نفعل سوى الاختيار والتشذيب والاختصار أحياناً. ويأتي النوع الثالث من المعطيات بشكل صورٍ نشرتها هذه المجموعات، على معرّفاتها الرسمية على تويتر، لشعاراتها وأعلامها وقياداتها ومقاتليها ومعاركها ونشاطاتها المدنية. وقد قصدنا من هذه الصور تقديم مشهديةٍ حيةٍ لهذه المجموعات تكمل ما قام به التعريف المعلوماتيّ وساندته المواد الخام المكتوبة، ولذلك اخترنا عدداً كبيراً من الصور. آملين أن تقدّم كلّ هذه المعطيات، متكاملةً، «صورةً» كبيرةً حيةً لهذا المشهد الغنيّ.
حاولنا تقديم كلّ حركةٍ بشكلٍ منفصلٍ من جوانب التأسيس والقادة وعدد المقاتلين وانتمائهم الجغرافيّ ومصادر التمويل وأبرز المعارك ومواقع الانتشار في سورية. كانت معرفة كلّ ذلك تتاح لنا حيناً وتغيب بعض المعلومات في أحيانٍ أخرى بسبب طابع «الأمنيّات» الحذر لدى السلفية الجهادية. ولذلك بدأنا بـ«الكتيبة الخضراء» التي توافرت عنها معلوماتٌ شبه كاملة، وشهادةٌ داخليةٌ غنيةٌ عن صراعات تياراتها وأيامها الأخيرة، بهدف أن تكون نموذجاً إيضاحياً ونوعاً من «بورتريه» مثاليٍّ لجماعةٍ من التي نستهدف دراستها في هذا البحث. كما ألحقنا بها شهادةً في سيرة مؤسّسها، من الأوساط الدينية السعودية إلى الجهادية، مروراً بمعسكرات التدريب في السودان بعد تعذّر الوصول إلى أفغانستان، فسجن الحاير السعوديّ الشهير الذي خرّج كثيراً من أبطال قصتنا.
وقد أهملنا، حسب ما تقتضي اشتراطات البحث المبيّنة أعلاه، الجماعات التي بدأت رحلتها القتالية كتشكيلاتٍ أو ألويةٍ من الجيش الحرّ قبل أن تنضمّ إلى الحركات السلفية الجهادية، وكذلك تلك التي تحوّلت هويتها شيئاً فشيئاً من الإسلامية العامة إلى السلفية الجهادية. ولم نعثر أصلاً سوى على مثالٍ وحيدٍ لهذا النمط الأخير تجسّد في حركة المثنى الإسلامية في درعا، والتي انتهت أخيراً في أحضان داعش.
وبعد الرصد، الذي حرصنا على أن يكون شاملاً قدر الإمكان، للحركات السلفية الجهادية الصغيرة في سورية، أمكن تلخيص مشهد «طيف القاعدة» هذا في السمات والملاحظات التالية:
- أدّت خلخلة بنية الدولة في سورية، وفوضى السيطرة على المعابر والمناطق الحدودية، إلى انتعاشٍ في سيرة الجهاد العالميّ، بعد أن كان يعيش انحساراً ورتابةً في أبرز ساحاته قبل ذلك، كأفغانستان والعراق والصومال.
- يختلف برنامج هذه الحركات عن برنامج الثورة السورية، ولا سيما في مراحلها الأولى، الذي طرح مسائل العدالة والكرامة والحرّية. بينما يندرج نشاط هذه الحركات ضمن مشروعها الجهاديّ، بما فيه من مواقف مبدئية ضدّ الشيعة، و«النصيرية» (العلويين) بشكلٍ خاصٍّ في الساحة السورية، ومواقف مبدئية مضادّة للديمقراطية والحريات. ولكن الحركات التي درسناها هنا لم تصطدم عملياً، على الأغلب، بجمهور الثورة وقواتها (الجيش الحرّ)، بخلاف ما فعلته الكتل السلفية الجهادية الكبيرة (داعش، وبنسبة أقل جبهة النصرة). ولهذا أسبابه المختلفة لدى الحركات موضوع بحثنا؛ فمنها من يعدّ جمهور الثورة وقوّاتها من «عوامّ المسلمين» الذين يشكلون حاضنة الجهاد الشعبية ومورداً متاحاً على الدوام لتغذيته بشرياً بعد التأثر بالدعوة والتحريض. وقد يكون تحاشي بعضها الآخر إصدار مواقف واضحةٍ من الجيش الحرّ، تتماشى ومنطلقاتها العقدية، ناجماً عن دوافع نفعيةٍ أو أسلوب عملٍ يؤجل ذلك إلى الوقت المناسب. وأخيراً ربما كان بعضها الثالث لا يعدّ «الساحة الشامية»، على أهميتها، إلا حلبةً مؤقتةً للجهاد قبل الانتقال أو العودة إلى جهاد القاعدة التاريخيّ ضد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، أو جهاد الروس.
- كان الصدام بين داعش والنصرة أحد أبرز الأسباب التي دفعت إلى وجود هذه الحركات وإلى محافظتها على استقلاليتها، كما كان الساحل السوريّ والانهماك بمعركةٍ واضحةٍ ضد «النصيرية» خيار كثيرٍ من هذه الحركات للخروج من «الفتنة». لكن التملص من استحقاقات المستقبل لن يدوم طويلاً، إذ ستعمل العوامل الذاتية عملها في تحوّل هذه الحركات نحو جبهة النصرة، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً الآن، أو نحو داعش، أو باتجاه التبدّد والاضمحلال. ويبدو أننا لن نشهد ولادة المزيد من هذه الحركات بعد أن اكتمل صراع داعش والنصرة إلى أقصاه، وبعد أن أغلقت الحدود أمام مهاجرين جدد.
- فضلاً عن الرابط الآيديولوجي الأساسيّ، نلاحظ اجتماع هذه الحركات، بدرجاتٍ متفاوتة، على أسسٍ جغرافية ترتبط بالبلدان الأولى لهؤلاء المهاجرين (شيشان، خليجيون، مغاربة، مصريون).
- من خلال السير المتاحة لبعض قادة وبارزي هذه الحركات يُلحظ تكرّر خروجهم من سجون مكافحة الإرهاب الخاصّة في بلدانهم، بدءاً من الحاير (السعودية) وحتى رومية (لبنان)، مروراً بصيدنايا بالنسبة إلى السوريين. مما يحيل الصراع إلى جذورٍ أعمق في بلدانٍ مختلفة، ويؤشّر مرّة أخرى إلى ضرورة وجود الحلول السياسية لمشكلات العالم الإسلامي ومظلومياته دون الاكتفاء بالمعالجات الأمنية أو القمعية أو العسكرية التي كثيراً ما زادت الأمور سوءاً.
- وإن أول الحلول السياسية المطلوبة هو في سورية، بشكلٍ تلبّى فيه المطالب الشعبية بالانتقال السياسيّ، وتفرض هيبة الدولة العادلة والحديثة وسيطرتها على جميع أراضي البلاد. ودون ذلك ستبقى أبواب النزوعات المتطرّفة والثأرية والطائفية مفتوحة.
* يمكن تحميل الإصدار من الرابط: http://ayn-almadina.com/?p=8743