صياد
لم تصدر بعدُ فتوى أو قرارٌ بخصوص المختلين عقلياً. لكن تركهم هكذا هائمين على وجوههم، يخرقون قوانين "الدولة" جهراً بإشعال السجائر وكشف عوراتهم والتلفظ بكلماتٍ ممنوعةٍ أقلها "داعش" و"دواعش"؛ أمرٌ لا يطيقه أبو داود الأنصاريّ.
وخاصّةً مع مريضٍ عقليٍّ معيّنٍ من أقاربه البعيدين، له ذاكرةٌ لا تعترف بما طرأ على حياة أبي داود من تغيّر، فلا تراه سوى "بوّاق العلف" أو "بوّاق المكيّفات من الوحدة الإرشادية". لا تتيح وظيفة آمر حاجزٍ لأبي داود زجّ هذا المريض الذي لا ينسى، وسواه، مدّةً طويلةً في السجن. بل إنه تعرّض مرّةً لتوبيخ شرعيٍّ حين ألقى القبض عليه ضمن من ضبطهم بالجرم المشهود مفطرين في رمضان. لكنه نجح أخيراً في العثور على طريقةٍ آمنةٍ ينفّس من خلالها غضبه المتفاقم على زمرة المستثنين هؤلاء بإيقافهم على الحاجز كلما اقتربوا من هناك، وفتح تحقيقاتٍ يتخللها تعذيبٌ ساخرٌ وتهديداتٌ بالحرق وإطلاق الرصاص على الرأس وتقطيع الأصابع بالخنجر. وحجّة أبي داود في تصرّفه هذا جاهزةٌ، وهي البحث عن الخبثاء ممن يقدّمون لهم السجائر ويلقنونهم آخر الشتائم بحقّ "داعش". في الحقيقة، لا يهتم أبو داود بالكشف عن الخبثاء، بل ما يهمّه فقط هو "تأديب هذا المهبول ابن المهبول الذي يتطاول"، أو كشف حقيقة أن "هذا المهبول مو مهبول" إنما "صاحي وأخبث من الشيطان"، كما يقول لأنصارٍ آخرين يقاسمونه متعة تعذيب المرضى العقليين وإجبارهم على الهتاف "باقية" مع رفع السبابة، ومع محاولات تلقينهم أشطر من أناشيد.
***
يوماً ما سنرفع الراية في مكة، قالت أم العباس المهاجرة لصديقاتها وهي تتابع مقطعاً مصوّراً على جوّالها لطواف حجّاجٍ حول الكعبة. ويوماً ما سنوقف ارتكاب الفواحش في أقدس بقاع الأرض. "فواحش!" استغربت مبايعةٌ حديثةٌ ما قالته المهاجرة التي لم تتأخر بالتوضيح أن طواف النساء والرجال واختلاطهم ببعضٍ حول الكعبة فاحشة، وعندما يفتح جنود الخلافة مكّة سيُعزل الجنسان. لم تقتنع المبايعة حديثاً بالجواب، لكنها هزّت رأسها مبتسمةً وموافقة.
***
أراد أن يكون مميَّز الاسم منذ الأيام الأولى لبيعته، فاختار أن يلقب "القعقاع الشاميّ" دون "أبو"، واحترمت السجلات رغبته. امتاز لأشهرٍ بهذا الاسم المفرد قبل أن يدفع الحسد والتقليد أنصاراً آخرين، ظلوا قلةً بطبيعة الحال، إلى اختيار أسماء جديدةٍ ومفردةٍ ومسبوقةٍ بأل التعريف التي تجعل من الرجل شيئاً فاعلاً ومعدوداً. لكن القعقاع لم يعدم ابتكاراتٍ جديدةً تجعل منه حديث الأخوة وعوامّ المسلمين، مثل عقد قرانه على فتاتين في يومٍ واحدٍ، وامتطاء فرسٍ مستعارةٍ للدوام على المقرّ أو التجوّل خلف أو أمام سيارة الحسبة، وحمل مسدسين في آنٍ واحد، أحدهما ملكٌ شخصيٌّ له والثاني مستلمٌ من "الدولة". جعلت هذه المزايا من القعقاع الشاميّ شخصاً مشهوراً بالفعل، طارت أخباره في الولاية كلها. لكن جدول تنقلاتٍ مشؤومٍ حطّم كلّ هذا ونقله إلى خطوط رباطٍ على أطراف البادية، حيث يُطلب منه أن يكون شجاعاً وفارساً بالفعل، وماهراً في إطلاق الرصاص.
