يقع حاجز الإنشاءات في قلب مدينة حمص. ويلقبه أهلها بحاجز "أبو سومر"، نسبةً إلى نقيبٍ علويٍ كان مسؤولاً عن هذا الحاجز، أشرف على اعتقال شباب الحيّ في الأشهر الأولى من عمر الثورة، حين لبّى أهل حي الإنشاءات الراقي نداء أهل حي بابا عمر المجاور غربي المدينـــــة. وعُرف عن "أبو سومر" كرشه الناتئ، وشرب الكحول في كل الأوقات، حتــــى عند الظهيرة وهو يقوم بجولةٍ تفقديّةٍ للغنائم التي حصل عليها عناصـــــــر الحاجز، من موبايلاتٍ ونقودٍ ومحافـــظ جلديةٍ وبطاقــــــاتٍ شخصيةٍ (مكسورة) يمكن من خلالها ابتزاز صاحبها في أي وقت، بعد أن يترك عنوان منزله بين أيدي الشبيحة على أمل استرجاعها بعد التحقق من أنه ليس إرهابياً. لكنهم، في الغالب، إما أن يداهموا منزله ويعتقلوه في مــــــــكانٍ غير معلوم، أو يطلبوا المال مقابل إعادتها إليه مكسورةً كمــــا هي. وإن لم يكن يملك المال فإن أثاث البيت يصبح ضمن لائحة المصادرة.
آخر مآثر "أبو سومر" كانت في شهر رمضان، حينما أجبر أحد المدنيّين من أهالي الحيّ، وهو موظفٌ في شركة الكهرباء، على شرب زجاجة كحولٍ كاملة، تعبيراً عن "اللحمة الوطنية" بين العلويين والسنّة، التي تحدّث عنها الموظف المسكين كي ينفد بريشه. ولم تفلح كل محاولات الموظف في إقناع النقيب بأنه صائمٌ، ولا يمكنه أن يشرب الكحول على معدةٍ خاوية. ولكن "أبو سومر" أجبره على ذلك، ثم أطلق من مسدسه رصاصة ثقبت يد "نديمه" لأنه لا يملك مالاً ليدفعه ثمناً لزجاجة الكحول. ولكن "أبو سومر" لم يستطع أن يستمر في زعامة حاجز الإنشاءات بعد أن تعرّض، بالطريقة ذاتها، لمدنيٍّ آخر يسكن في الحيّ. فهذه المرة لم يكن الضحية سنّي المذهب مثل سابقه المسكين، بل كان إسماعيلياً من أهالي مدينة السلميّة، يدرس في كلية الآداب بحمص. وكان شقيقه ضابطاً في الفرقة العاشرة بدمشق، وقد حضر على الفور بعد أن علم بما جرى لشقيقه، وبحث عن "أبو سومر" واجتمع به في إحدى السهرات بحي عكرمة الموالي بغالبيته للنظام، فأشهر مسدسه وأفرغ طلقتين في الكرش الناتئ انتقاماً لأخيه، قبل أن يقتله أحد أقرباء النقيب.
فرح أهل الحيّ حينما اكتشف أحد الناشطين مؤخراً أن "أبو سومر" قتل على أيدي ثوار الرستن. وقد نشرت صوره مقتولاً على صفحة (شبكة حي عكرمة) على الفيسبوك، وتم سحبها على الفور بناء على طلب أخوته الشبيحة. ولكن حاجز الإنشاءات لم ينسَ فضائل هذا النقيب "الممانع" و"البطل". فإكراماً له، قام عناصر الحاجز بدفن ثلاثة شباب لم يتجاوزوا العشرين من العمر وهم أحياء، فقط لأنهم ينتمون إلى عائلاتٍ عريقةٍ في حمص!
***
ولحاجز دوّار المواصلات قصةٌ مختلفة، فهو يتمتع بموقعٍ استراتيجي شرقي المدينة، فهو متاخمٌ لحيّ الزهراء (عاصمة الأحياء العلوية الموالية في المدينة، و"يعمل" قسمٌ كبيرٌ من أهله في الأجهزة العسكرية والأمنية)، ويفصل الحيّ عن الضفة الأخرى من المنطقة التي تضم حي المهاجرين العلوي والأرمن المسيحي.
فإذاً، يفصل هذا الحاجز بين أحياءٍ تسكنها أقليات، علوية ومسيحية، ولا وجود للسنّة في هذه المنطقة، بعد نزوحٍ جماعيٍّ للعائلات البدوية عنها في الأشهر الأولى للثورة، منذ حادثة هجوم جماعة عرب فدعوس على الحيّ، وإطلاق النار على منزل شيخ عشيرتهم، العضو في مجلس الشعب، لتواطئه مع الأسد ضد أهل حمص.
***
كانت شرارة الاقتتال بين الأقليتين، عند هذا الحاجز، من أجل أسطوانة غازٍ كبيرة الحجم نهبها أحد الشبيحة من محلات "السنّة" في جورة الشياح، وجلبها إلى مزاد "سوق السنّة" في حي الزهراء، فاشتراها رجلٌ مسيحيٌّ من سكان حي الأرمن بـ 10 آلاف ليرة، ليضعها في محلٍ لبيع الفلافل بحي المهاجرين المجاور. وبالصدفة يدخل الضابط "أبو ظافر" إلى هذا المحل ليشتري سندويشات الفلافل لعائلته، فيرى الأسطوانة ويكتشف أنها مسروقة من مستودعه الخاص بـ "الغنائم" التي يكسبها من مداهماته اليومية في الأحياء الراقية في حمص، ويجنّ جنونه، ويقسم لصاحب المحل إن الأسطوانة له وقد سرقها أحد عناصره من المستودع دون علمه. وبين أخذٍ وردٍّ ترتفع النبرة ويشهر الضابط مسدسه مهدداً، فيتجمهر الناس ويتدخل أحد أقارب صاحب المحل واضعاً مسدسه في رأس الضابط، لتنتهي المشاجرة بأن يطلق الضابط النار على بائع الفلافل، ويغادر حاملاً كيس السندويش الذي كان المقتول قد أعدّه!
***
لا تنتهي المشاجرات والصراعات بين الشبّيحة، طالما أن الجشع موجود، والمزاودات على الانتمـــــاء للوطن وحب القائد لا تنتهــــي. وقد شهد حاجز الوعر، عند دوّار المهندسين الذي يقطنه 600 ألف نازح، مشاجرةً من نوع خاص، نشبت بعراكٍ بالأيدي بادئ الأمر بين جنود الوطن، بزعامة شبّيحٍ ينتمي إلى آل "ميهوب" بحي عكرمة، وبين شبّيحٍ وطنيٍّ آخر ينتمي إلى آل "شبيب" من سكان حي الزهراء. ويمثّل هذان الحيّان طبيعة الصراع الطبقي الكامن بين أفراد الطائفة العلوية في حمص، فهم يكنّون العداء لبعضهم البعض منذ عقود. فحيّ عكرمة أكثر احتكاكاً مع "السنّة" من سكان حمص الأصليين، حتى أن لهجتهم الريفية بدأت تندثر لحساب اللهجة الحمصية، بعد أن تخلوا في العقد الأخير عن لفظ حرف القاف الشهير. وقد سمحوا للاستثمارات والتجارة "السنّية" بدخول حيهم، ويعتبر الحي منطقة ثانية من حيث التطور والتخديم في المدينة، بينما بقي حي الزهراء محافظاً على أصالته الريفية، ولا يسمح أهله بأي شكلٍ من الأشكال بافتتاح محال تجارية لغير "العلوي".
سبب المشاجرة بين الشبّيحين هو اختلاف وجهات النظر بينهما حول السماح بعبور امرأةٍ تنتمي لعائلةٍ سنّيةٍ محافظة، خرج منها الكثير من الناشطين، ومن ضمن أفراد عائلتها وأبناء عمومتها الكثير من المعتقلين والمطلوبين للأمن، إلا أنها زوجة رجلٍ "يحتلّ" منصباً إدراياً رفيعاً في دمشق، بعد أن عمل في الحقل الديبلوماسي، وهو نسيبٌ لأحد الضباط في القصر.
انتهت المشاجرة بإطلاق النار على الشبّيح البراغماتي ذي الانتماء لحيّ عكرمة، إذ لم يحتمل ابن الزهراء، رفيقه في السلاح وحب الوطن، أن يدَعَ امرأةً "سنّية" تعبر الحاجز دون أن تتعرض للإهانة على أقل تقدير!