لحلب، بحاراتها وأزقتها وطباع أهلها وعاداتهم، خصوصيةٌ مليئةٌ بالحكايا والأساطير والنميمة والذاكرة، جسّدتها الكثير من المونولوجات الطريفة والقصص والأمثال والكتب والمسلسلات التي توقفت طويلاً عند هذه التفاصيل التي أضفت على المدينة العريقة نكهةً معشّقةً بحب الحياة والموسيقا والطعام أيضاً.
لا تبتدئ «الصبحية» عند نسوة المدينة وفق المعنى الحرفيّ للكلمة (الصباح الباكر)، بل تتجاوز ذلك الوقت في أغلب الأحيان حتى ساعات الظهيرة. فهي، على حدّ قولهنّ، «فنٌّ لا يتقنه الرجال ولا الموظفات». ترتدي النساء أجمل ثيابهنّ ويتجهنّ إلى بيت إحداهنّ «دورية، كلّ مرّة عند وحدة»، يتباهين بحليهنّ وثيابهنّ ويرتشفن القهوة مع كمٍّ كبيرٍ من الضحك والنميمة والغناء والأهازيج التي يتخللها الرقص والزغاريد وجلسات «فتح الفنجان» وتبادل الأخبار، وحتى البحث عن عرائس لأبنائهنّ.
لم تغب هذه الظاهرة عن المجتمع الحلبيّ رغم الظروف القاسية التي يعيشها في ظلّ الحصار. وفشل الألم -مرّةً أخرى- في تدمير ضحكات نساء حلب القادرات دوماً على استحضار طقوسهنّ في كلّ الظروف.
في حيّ الزبدية، في القسم الشرقيّ المحاصر من حلب، وأثناء قصف الطائرات وتدمير البيوت، سعت بعض نساء المدينة -بعد اتفاقهنّ على الواتس آب، الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامهنّ- لإقامة صبحيةٍ على الطريقة الحلبية القديمة، هرباً من الموت وطمعاً في الفرح.
تحكي لنا السيدة مرح: «اتفقنا على أن نعمل صبحية. وقدّمت لنا السيدة ثورة، صاحبة نادي الأطفال في الحيّ، المكان لإحياء هذا الطقس». وأكملت: «دعونا صديقاتنا إلى الصبحية. قسمٌ كبيرٌ منهنّ لم يستطع الحضور نتيجة الضرب المتواصل، وبعضهنّ استطعن الحضور. كنا نريد أن نغير جوّ ونخرج من حالة الضغط التي نعيشها مع أطفالنا».
السيدة ثورة مديرة النادي أمٌّ لشهيد، وتعمل كمدرّسةٍ في النادي وتدرّب النساء في دورات التمريض وحملات التوعية النفسية. قالت: «كنت في حالةٍ نفسيةٍ صعبة. كلنا كنا كذلك، بعضنا كنّ مكتئباتٍ من ظروف الحصار وضيق العيش، وأطفالنا يعيشون حالةً من التوتر. اقترحت بعض النساء هذه الصبحية للتخفيف عني وعن أنفسهنّ، كانت الفكرة جميلةً وكنت أرغب في مساعدتهنّ».
أحضرت النساء ما استطعن إحضاره من بيوتهنّ. وعن مائدة الفطور حكت لنا الطفلة سيدرا التي قامت بتجهيزه، تاركةً لأمها ورفيقاتها مهمة النميمة وتبادل الأحاديث: «ما عنّا عدّة فطور كاملة بسبب الحصار. بس نحنا جبنا علب الفول من المعونات وفرمنالا بصلة صغيرة وصارت أطيب من الجاهز، وحمّص مطحون من المعونة كمان، وعملنا شاي على الحطب».
بعد الفطور بدأت جلسة الغناء وتبادل النكات والقصص عن العائلات والذاكرة على «نفس أرجيلة». قالت السيدة سعاد، التي كانت تعدّ النارجيلة، إنها صنعت المعسّل من أوراق الشاي المغليّ بعد إضافة ملعقةٍ من المربى إليه، لتقاطعها إحداهنّ: «ما طلع للوحدة غير سحبتين!».
عند الحديث مع النساء عن سبب قدومهنّ، وعن كيفية كسرهنّ الحصار، وعن صناعة أطباق الطعام من المواد المتوافرة في ظلّ غياب معظم المواد الأساسية؛ قالت فاطمة، إحدى اللواتي شاركن في الصبحية: «جينا لهون لنغيّر جوّ، لنفكّ عن حالنا جوّ الحصار ونجتمع مع رفقاتنا. هي مي أوّل مرة، ساوينا قبل أكتر من صبحية، بس هي الصبحية الأولى بعد ما تحاصرت حلب». وأكملت: «عملت كبة نية وجبتا معي. طوّلت معي شي ساعة. كان عنّا فليفلة مخباية من قبل الحصار».
أما السيدة سعاد فقالت: «جيت على الصبحية ومعي «كباب داريا». نقعت العدس والبرغل قبل نهار ودرتون على الماكينة وقليتون على صوبة الحطب. السيدة ثورة عطتنا العدس، ما كان عندي. أنا لحالي عملتون، دعبلتا وسيّختا وقليتا». وعن صعوبة الوصول إلى المكان أكملت السيدة سعاد: «تأخرت لبعد ما ساويت الكباب. ما في غاز ولا كهربا ولا سيارات. جيت مشي».
امتدت الصبحية من الثانية عشر صباحاً وحتى الخامسة مساءً. لم يدر حديثنا عن الحصار أو وضع الحرب. تذكرنا كل النكات القديمة والأحاديث الماضية.
عبّرت السيدة ثورة عن فرحها بالصبحية رغم الدمار والموت المحيط. وحين ودعتنا قالت: «لا زلنا صامدين، وسوف نبقى هنا. لن يستطيع أحدٌ كسر حياتنا وإرادتنا في الحياة».