كيف يمكن للثورة السورية تجنّب الوقوع في براثن نظامٍ قمعيٍّ شموليٍّ جديد؟ هذا هو السؤال المحرّض للكتاب، والذي وجّهه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لخمسةٍ من المثقفين السوريين، هم أحمد حسّو وأكرم البني وأنور البني ورضوان زيادة وياسين الحاج صالح، الذي قام أيضاً بتحرير الكتاب الصادر مؤخراً.
يسود العنف المشهد السوريّ الراهن. فمن طرفٍ، هناك جموعٌ مهمّشةٌ تُسمع صوتها وتفرض كلمتها اليوم لأنها تحمل السلاح، وكان يمكن أن تعيش وتموت وهي غير مرئيةٍ وغير مسموعة. وبالضبط لأنه عانت من الهامشيّة والغياب، تعرض اليوم أشكالاً فظةً من الحضور، أشكالاً عدوانيةً من فرض الكلمة. أما من طرف النظام فهناك حربٌ متصاعدةٌ ومتسعة، لم تنتظر ظهور مقاومةٍ مسلحةٍ لتبدأ، ولا هي رهنت نفسها بأيّ شيءٍ غير التوقف الكامل للثورة، والاستمرار الصريح للنظام الأسديّ.
ومن غير المؤثر فعلياً البحث عن حلولٍ تحدّ من إمكانية ظهور طغياناتٍ جديدةٍ في خطاب وأجهزة المعارضة السياسية. إذ إن الشيء الذي يفوت معظم الملاحظين عن بُعدٍ أن دينامية الثورة ودينامية المعارضة مختلفتان تماماً، وأن المعارضة ليست قائدةً للثورة، وليس لمعظم كوادرها دورٌ مؤثرٌ فيها. بل إن هذه المعارضة لا تعطي جمهور الثورة انطباعاً بالجدية والاحترام، فقد اتسمت بالركاكة في التفكير والسلوك، وفي صفوفها كثيرٌ من الأنانيين غير المنشغلين بشيءٍ سوى ذواتهم، وبينهم خصوماتٌ لا تنتهي، ليس هناك ما يقنع بأن وراءها دواعٍ عامةٌ وجيهة. ولكن، على كل حال، حتى لو جرى تغيير هذه المعارضة أو تغيير سلوكها، فإن أثر ذلك على مسار الثورة سيكون ضعيفاً الآن. إن التغيير الوحيد الذي يشكل نقطة انعطافٍ في سوريا اليوم هو تغيير النظام.
يقدّم حسّو، وهو إعلاميٌ معارضٌ يعيش في ألمانيا، رصداً لأبرز مفاصل الثورة، بالتقابل مع خصوصية النظام عن سواه من الأنظمة التي طالتها رياح الربيع العربيّ، ولا سيما من جهة الاعتماد على الطائفة في السيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية. يطالب الباحث بإعادة الاعتبار لأهداف الثورة كضمانة، معوّلاً على النخب الثقافية في إنجاز ذلك.
أما أكرم البني، الذي لا يشك في أن النظام هو المسؤول الأول عن إعاقة مسار الثورة وإدخالها في تعقيداتٍ وأخطار لا تنتهي؛ فيؤكد أن الثقة بشعارات الثورة ومعاناتها، وبصور الاستبسال المذهل التي أبداها شعبٌ انتفض من أجل حقوقه، لم تعد كافيةً الآن، بل لا بدّ من استعادة السياسة واحترام الاختلاف.
ويعترض الحاج صالح على أولوية طرح السؤال. فالكيان السوريّ برمّته مهدّدٌ بالتفكك، برأيه، والبلد اليوم سورياتٌ مقطعة الأوصال تتنازع التمثيل، لا تشكل «سوريا الأسد» منها غير المنبع الديناميكي للتفكك والخراب العام. وأحد سيناريوهات المستقبل هي أن يتمادى الصراع إلى إقطاعياتٍ مع حربٍ مطلقةٍ بلا ضوابط، واستمرار النزيف المادي والبشري، وصعوبة الأوضاع الإنسانية التي يدفع ثمنها الأفقر من السوريين.
ويرى أنور البني، رئيس المركز السوريّ للدراسات والأبحاث القانونية، أن الثورة السورية من النوع العميق والشامل والواسع، التي تعقب اهتراء البنى الحاملة للمجتمع ككلّ، فتأتي لتقلب مجمل مفاهيمه وعلاقاته. ويقول إن ضمانة عدم نشوء ديكتاتوريةٍ بديلةٍ هي منع تشكّل الركائز التي تستند إليها الديكتاتوريات عادةً في استمرارها؛ وهي استخدام المفاهيم والشعارات الكبرى لتبرير وجودها وتسلطها، والقوة العسكرية التي تضبط المجتمع عن طريقها، والإعلام الموجّه، والسكوت الإقليمي والدوليّ. ولا يعتقد الباحث بإمكان اجتماع هذه الشروط مرّةً أخرى في سوريا المستقبل، مع وجود ضماناتٍ قانونية.
أما رضوان زيادة، مدير المركز السوري للدراســـــات الســـــياسية والإستراتيجية، فيعرض المشــــروع الذي أنجزه مركزه، من خلال تعاون ما يقارب ثلاثمائة شخصيةٍ من الخبراء السوريين في مختلف الاختصاصــــــات، لإدارة مرحـــــــــلةٍ انتقاليةٍ تبدأ من لحظة سقوط النظام، ويتناول مختلف جوانب الحياة العامّة، برؤىً عامةٍ وخطواتٍ تفصيلية، مؤسّسة على طروحات وأهداف الثورة.
وأخيراً، يضمّ الكتاب ملحقاً وثائقياً غنياً ومتنوعاً، يعرض وجهات نظر بعض الكتل الثورية والمعارضة الكبرى، والنتائج الختامية لبعض أبرز مؤتمراتها، وصولاً إلى نصّ قرار مجلس الأمن القاضي بنزع السلاح الكيماوي.