من بين مذكرات السجناء في سورية، تقلّ كتابات المرأة. ومن بين أبرز كتب السجينات يحضر دوماً كتاب هبة الدبّاغ «خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في سجون سورية»، الذي يروي تجربة صاحبته في المعتقلات خلال أعوام 1980 ـ 1989.
ويستمدّ الكتاب عنوانه من التطمين الكاذب الذي يقدّمه عناصر الأمن لأغلبية المعتقلين وذويهم، بأن المسألة لن تتعدّى حدود زيارة «الفرع» لخمس دقائق، يشرب خلالها الشخص المطلوب «فنجان قهوة»، ولن يتعرّض لأكثر من سؤالٍ وجواب. وهو ما قاله رئيس المجموعة التي اعتقلت هذه الطالبة الجامعية الحمويّة، ذات ليلةٍ شتائيةٍ، من حيّ البرامكة الدمشقي.
وطوال عقدٍ تالٍ ستتنقّل الفتاة بين المعتقلات والسجون، بتهمة الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو رهينةً عن إخوتها المتهمين بالانتماء إلى التنظيم ذاته. وتتعرّض خلالها لفنونٍ مريعةٍ من التعذيب والإهانة، تبدأ بشتائم مقذعة تتناول الشرف والعرض، يستوي في إطلاقها كبار الضباط مع أصغر السجّانين، وتصل حدّ التهديد بانتهاك الجسد أو حتى الإعدام.
ولكن الحقيقة التي تكشّفت للأمنيين، من أن سجينتهم لا تنتمي إلى أي تنظيم، وأنها لا تعرف بالفعل طريق إخوتها المتّهمين؛ لم تمنع من الاستمرار في اعتقالها، بخلاف الزميلات اللواتي صادف مشاركتهن لها في السكن، واعتقلن جميعاً، بمن فيهنّ والدة زميلة أردنيّة كانت في زيارة ابنتها! أما اعتقال والدة هبة، والتحقيق معها عن مكان ابنها، فهو من باب أولى. وعندما سيُفرج عن الأم لاحقاً، سيقول المقدّم محمد ناصيف خير بك،
الذي كان رئيساً لفرع أمن الدولة بكفرسوسة، حيث اعتقلت الأم والبنت، لإحدى السجينات المعترضات: «انظري.. لا توجد أحسن من جلستكن هذه أبداً.. أنتن هنا معزّزات مكرّمات.. ومثل هذا الفرع لن تجدوا! هذه أم هبة أخرجناها فجلست هنا على الباب فترة طويلة تبكي ولا تعرف كيف تتصرف حتى أعطيتها أجرة الطريق من جيبي أنا..». وبالطبع، كانت الأم ترفض المغادرة قبل أن تعرف شيئاً عن مصير ابنتها، وأحد أبنائها الذي لحق بهم سجيناً في الفرع نفسه، قبل أن تغادر إلى حماة. ثم تلقى وجه ربّها بعد ذلك بعامين، مع جميع أفراد عائلة هبة الذين كانوا موجودين وقتها في المنزل، أثناء مجزرة حماة الكبرى، عام 1982.
وبعـــــــــــــــد أن حكمت عليها محكمة أمــــــن الدولة بعشــر ســـــنواتٍ من الســجن مع الأشغال الشاقة، ســـــتنقل الدبّـــــاغ إلى سجن النساء في قطنا ثم في دوما، وتلتقي بعشــــــــرات السجـينات وتـــحمل حــكاياتـــــــــهن المريرة؛ فقد عرّى عمر حميدة، رئيس فرع أمن الدولة بحلب، الحاجّة مديحة من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبّلتين خلف ظهرها. ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر الذي لم يتعرّف إليها، ليبلغه حميدة بتشفٍ أنها أخته، فيغمى على الشقيق فوراً. أما عزيزة جلود، زوجة النقيب إبراهيم اليوسف، فكان حميدة يضربها على بطنها وينادي كالممسوس على الجنين يقول له: انزل.. انزل واشهد اللهم إني بعثي! لكن الجنين سلم حتى الإفراج عن أمه، التي وضعت مولودها إسماعيل قبل أن يعتقلوها للمرة الأخيرة وهو معها في شهره الأول أو الثاني، ويبقيا معاً في سجن المسلمية أربع سنوات.. أما مطيعة فكانت معلمة اعتقلت مكان زوجها، إضافة إلى اعتقال والده.
وكانت في أواخر الثلاثينات من عمرها وأماً لأربعة أولاد، وخامسهم في آخر شهور الحمل، لكن ذلك كله لم يشفع لها، فأخذوها رهينة عن زوجها، واحتجزوها مؤقتاً في مستوصفٍ تابع للأمن السياسي بجسر الشغور، وهناك وضعت مولودها الذي أسمته «معقل». وبعد ذلك نقلوها والمولود إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق، ثم إلى سجن قطنا، الذي دخله الطفل وهو لم يتجاوز شهوره السبعة أو الثمانية بعد.. وخرج منه وعمره خمس سنوات.
وبين نزيلات قطنا كانت أسماء الفيصل، زوجة رياض الترك، الأمين العام للحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي، وهي طبيبة في الخمسينيات من عمرها، أمضت في السجن سنوات، وتركت في نفوس السجينات الإسلاميّات انطباعاً حسناً. ولكن »الحظّ» سيسعف الدبّاغ بلقاء الترك نفسه، عندما أحيلت مرّة أخرى إلى فرع التحقيق العسكري، حيث قضى الزعيم الشيوعي أكثر من عشر سنواتٍ في زنزانةٍ منفردة، ستسمع هبة من الراديو الصغير الموجود فيها انطلاق تكبيرات العيد... لأول مرة منذ سنوات.