أنطاكية – خاص عين المدينة
يروي أحمد، وهو خرّيجٌ جامعيٌّ في الثلاثينات من العمر، رحلته الطويلة من دمشق، مروراً بمختلف القوى على الأرض، بهدف الهروب من البلاد إلى تركيا ومنها إلى الملجأ الأوروبيّ. مثل الكثيرين لم يستطع أحمد السفر عبر الطرق النظامية، لا لأنه مطلوبٌ للأجهزة الأمنية أو للخدمة العسكرية، بل لأنه فلسطينيّ.
منطلق النزوح
خرجنا من مخيم اليرموك في كانون الأول 2012، بسبب قصف النظام بطائرة الميغ لجامع عبد القادر الحسيني الذي كان يؤوي نازحين. وقتها قرأ الناس الرسالة فخرجوا في نزوحٍ جماعيٍّ خلال ليلةٍ واحدةٍ ساعد فيه الأمن بتأمين باصات النقل الداخليّ، في رسالةٍ ضمنيةٍ بأن المخيّم سيصبح منطقةً عسكرية. بعد مدّةٍ ذهبنا لنجلب بعض الأغراض من المنزل فحوصرنا لأيامٍ هناك. وبعدها لم أعد مطلقاً. نزحنا إلى منزل أقارب في دمشق القديمة، حيث كنّا 32 شخصاً في غرفتين. استمرّ هذا الوضع لسنة، قبل أن يبدأ تسرّب أفراد العائلة باتجاه أوربا.
كنت رافضاً لفكرة السفر في البداية بسبب عدم توافر المال الذي خسرناه لأنه كان على شكل عقاراتٍ لم نعد نستطيع الوصول إليها. جاءني أحد السماسرة المرتبطين بالنظام ليعرض عليّ شراء منزلنا الذي كان سعره يقدّر بثمانية ملايين ليرة سورية (160000 $ وقتها) بما يساوي حوالي 700 دولار! رغم ذلك فقد باع بعض معارفنا منازلهم في المخيّم بسبب احتياجهم إلى مبالغ فورية للهجرة، ولأن السماسرة أقنعوهم باستحالة العودة إليها نهائياً.
دمشق النظام
في دمشق تبدأ المعاناة من الحواجز: "ليش مانك بالجيش؟". لم يعد عناصر الحواجز يتقبلون فكرة وجود شابٍّ مدنيٍّ، فكانوا يضايقوننا على الدوام، رغم أنني أنهيت الخدمة العسكرية ولم أطلب للاحتياط. كانت الاستفزازات تهدف بطريقة غير مباشرةٍ إلى دفع الشاب إلى التطوّع في الدفاع الوطنيّ أو سواه من قوّات النظام، ليمنع عن نفسه الإهانات ويحصّل حدّاً أدنى من الدخل والمشاركة في السلطة، أو تهدف إلى دفع الناس إلى السفر. يرى مقاتلو النظام أن الشخص المدنيّ يطيل في عمر الأزمة التي لا تحلّ إلا بالسلاح، وهو لا يشارك في هذا "الحل".
بعد أن تعرّضت لخطر الإصابة بالقذائف القادمة من ريف دمشق مراراً، بسبب الانتشار الكثيف للمراكز الأمنية بين المناطق السكنية، ولانعدام المستقبل، واستفزازات الأمن وإهاناته، وفقدان فرصة العمل بسبب أفضلية التوظيف لأبناء "الشهداء"، وأولاد المقاتلين والواسطات، وبعد أن قرأت على أحد الجدران عبارة كبيرةً تقول: "أحد أحد، أسد أسد، أبد أبد"؛ قرّرت الهجرة.
الطريق الطويل
لا يستطيع الفلسطينيّ السوريّ السفر إلى تركيا التي تطلب منه فيزا، بينما يستطيع السوريّ السفر بالطائرة أو بالباخرة. إضافة إلى قرارٍ سرّيٍّ شاع خبره في تموز الماضي، أصدرته السلطات السورية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، بمنع خروج الفلسطينيين من سورية بوصفها "دولة ممانعة"، ولئلا يفقدوا "حقّ العودة" وفق اتفاقية دبلن. وتولى تنفيذ هذه المهمة حاجز القطيّفة الشهير.
بعد رشاوى (بسبب أوامر شفوية بمنع سفر الفلسطينيين عبر المطار ولو في الرحلات الداخلية) استطعنا الوصول إلى مطار دمشق للسفر ظاهراً إلى القامشلي، وهناك بدأت رحلة سفري التي طالت أسبوعاً إلى تركيا. كنا 17 فلسطينياً، كلٌّ منا اشترى رجال الأمن بطريقته.
مناطق السيطرة الكردية: عدد العرب قليلٌ جداً في القامشلي. اللغة الكردية هي السائدة في الحديث وأسماء المحلات وعلامات الطرق. حواجز عديدة وضخمة لوحدات الحماية تضيّق على غير الأكراد خارج حدود المدن. أما داخل القامشلي فلاحظت انتشار الأمان والتنظيم والإدارة المحلية الجيدة في الخدمات، حتى أنها أفضل من دمشق. أما في عين العرب/ كوباني فيمنع دخول غير الأكراد نهائياً، وحتى الأكراد من غير أبنائها يُمنعون من دخولها دون "كفيل" وموافقةٍ أمنية. يختلف الوضع في الحسكة إذ تبدو معالم النظام بقوة، الأمن والجيش والدفاع الوطنيّ حتى بداية حدود الرقة. بسبب التوتر الكرديّ التركيّ وصل خطّ التهريب إلى درجةٍ من الخطورة قد تبلغ القتل، فقرّرت البحث عن طريقٍ آخر.
مناطق سيطرة داعش: قبل أن نصل إليها بدأت تعليمات السائق: التدخين وأيّ وجودٍ للتبغ ممنوع؛ النساء تتحجّب بالأسود بالكامل وتجلس في آخر الميكرو وتُمنع من حمل أوراقها الثبوتية التي يجب أن تبقى مع المحرم الذي يتولى الإجابة في حال السؤال؛ الشخص الحليق يخفي نفسه بين الركاب؛ لا تناقشوهم واحتملوا التخويف والاستفزاز.
استوقفنا سوريٌّ على الحاجز، بينما بقي المهاجر الأعلى منه رتبةً جالساً في مكانه. اعتبرنا العنصر شبّيحةً لأننا فلسطينيون من جهة ولأننا قادمون من دمشق من جهةٍ أخرى، فضلاً عن البحث عن الأكراد لأن الميكرو قادم من القامشلي. هويات النساء تُغطّى بلاصق أسود على الوجه. تفتيشٌ دقيقٌ عن الدخان. تخويفٌ وجلافةٌ دون إهانة، ثم مررنا بسلام. مدينة الرقة فارغة، حتى لم نلحظ وجوداً مكثفاً لداعش. تقوم الأعمال على ميكانيك السيارات متعددة الأنواع بشكلٍ لافت، وعلى التكرير البدائيّ للنفط، مما يخلّف سماءً سوداء وتلوّثاً شمّياً ملحوظاً وبسطاتٍ لا تنتهي لبيع قناني البنزين والمازوت، وكأن المدينة كلها منطقة صناعية. الوجوه شاحبة. أصوات المولدات في كل مكان. محلات بيع المنتجات الطبيعية، كالمواد الغذائية أو الألبسة، قليلةٌ جداً. هناك عددٌ هائلٌ من المحلات المغلقة وقد كتب عليها: "مكتب الخدمات الإسلامية". بخلاف أراضي داعش في ريف حلب التي انطلقنا إليها، فقد كانت أفضل رغم أنها تعاني من آثار الدمار. بتنا ليلتنا عند مهرّب من منبج. دخّنّا بكثافةٍ، وانطلقنا صباح اليوم التالي باتجاه الحدود.
تنصّ اتفاقية دبلن على أن أيّ إنسانٍ "بلا وطن" يبصم، عند طلب اللجوء في دول الاتحاد الأوربيّ، على ورقةٍ خاصّةٍ لا يحقّ للدولة المضيفة بموجبها إخراجه مدى الحياة، وتتكفل بمعيشته، وبعد مدّةٍ يحقّ له التقدّم بطلبٍ للحصول على جنسيتها، وفي المقابل يسقط عنه "حقّ العودة" الخاصّ بالفلسطينيين. ولذلك تشجّع إسرائيل لجوءهم وحصولهم على الجنسيات الأوربية وغيرها.
الكتائب الإسلامية والجيش الحرّ: قطعنا آخر حاجز لداعش ليستقبلنا حاجزٌ لجبهة النصرة. كان عناصرها ألطف و"أحنّ"، وبنيتهم أكثر صحّة من الدواعش. معظم الحواجز بعد ذلك كانت للجبهة الإسلامية التي كان عناصرها كرماء معنا حتى في التحية والحديث والنصح. وجدنا بعد أيامٍ من السفر طعاماً وقهوةً ودخاناً في الاستراحات، وتغطيةً للموبايلات كانت قد انقطعت منذ خروجنا من الحسكة.
أخذنا طريقنا إلى الدانا، حيث يتجمّع المهرّبون. أعطونا "الوصل" (مرفق في الصورة) وانطلقنا باتجاه خربة الجوز وسط طريقٍ مليءٍ بآثار المعارك، دباباتٌ ذائبةٌ ودمارٌ كبيرٌ للبيوت والجسور ضمن طبيعةٍ ساحرة.
التهريب
في الليل جاءنا يافعون هم "المهرّبون" الفعليون، بإشراف شبابٍ أكبر سناً يشكلون ما يشبه مجموعة استطلاع، بإشراف منسّق عمليات ثلاثينيٍّ يفرز المجموعات حسب طبيعة العابرين: شباب، عائلات، عجائز. بينما كانت مصفحة "العقربة" التركية، المزوّدة بكشافات ضوءٍ وأجهزةٍ حساسةٍ للحركة ومناظير ليلية، تجول في المكان.
كانت مجموعتنا من 18 شخصاً من الشباب. اكتشفنا فيما بعد أن المهرّبين يستخدمون الشباب كطعمٍ للجندرمة التركية لكي تلاحقهم وتتمكن العائلات من المرور بشكلٍ أسهل. أخذنا نتراكض بسرعةٍ شديدةٍ. وصل منا 12، والباقي وقعوا على الأرض فأمسك بهم الأتراك. وصلت العقربة إلى ورائي وصوتٌ منها ينطلق قائلاً بعربيةٍ مكسّرة: "نو نو، لا تهرب، ما بضربك". لم أستجب وتابعت بسرعةٍ على طريق البحص حتى غاب الصوت وصرت داخل الأراضي التركية. تنفست بعمق. وها أنا أنتظر بداية المرحلة الثانية من رحلتي إلى إزمير.
شبكة التهريب:
أبو حسين (دمشق): تأمين حواجز المطار حتى الوصول إلى القامشلي.
أبو إسماعيل (القامشلي): تأمين المنامة والسكن.
أحمد الكردي: سائق فان اختصاصه التوصيل من القامشلي إلى أطراف الحسكة، مروراً بحواجز وحدات حماية الشعب والأسايش.
أبو عبد السلام: من حدود الحسكة إلى منبج، مروراً بحواجز النظام وداعش (بدويّ متخصّص بكلّ القوى في البادية).
أبو حسن: المضيف في منبج.
أبو سامر: سائق "داعشيّ" من منبج إلى آخر حدود داعش قرب إعزاز.
أبو طلال: من أول حاجز لجبهة النصرة قرب إعزاز إلى الدانا حيث مركز "الشركة" التي يديرها "الحوت".
أبو محمد: سائق من الدانا إلى الحدود.
أبو صبحي: "مدير عمليات" التهريب عبر الحدود.
خليل: مهرّب صغير (16 سنة) مختصّ بالشباب.
منسّق سوريّ للسيارة التركية: يحاسب ثم يستقدم السيارة.
سائق تركيّ: أوصلنا إلى مفترق طرق قرب إحدى القرى التركية.
سائق تركيّ ثانٍ: تسلمنا من الأول وأخذنا إلى كاراج أنطاكية.
تركيّ متوسط العمر: تولى حجوزات سفرنا إلى مقاصدنا في المدن التركية المختلفة.